للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[منهج أبي عبيد في الفقه]

أما بالنسبة للفقه:- فإن أبا عبيد -رحمه الله- كان إماماً مجتهداً، غير مقلدٍ ولا متبعٍ لمذهب معين؛ لأنه قد توافرت فيه صفات الاجتهاد؛ فمثلاً الخبرة بحديث النبي عليه الصلاة والسلام موجودة، وعلم الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه الخبرة باللغة معرفة اختلاف العلماء فقه النفس، كله كان متوفراً عنده رحمه الله.

وهو صاحب مناظرات فقهية مع كبار العلماء، وحصلت له مناظرة مع الشافعي، هذه المناظرة تُكتب وتروى في موضوع أدب الخلاف والمناظرة، والإخلاص وطلب الحق.

والقصة: تناظر الشافعي وأبو عبيد في القرء الذي تعتد به المطلقة، فكان الشافعي يقول: إنه الحيض، فثلاثة قروء تعني: ثلاث حيضات، أي أنه إذا طلقها في طهرٍ لم يجامعها فيه فإنها تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم تحيض، فإذا انتهت الحيضة الثالثة خرجت من العدة، وملكت نفسها، وتزوجت مَن أرادت بالمعروف.

وكان أبو عبيد يقول: إن معنى القرء: الطهر، وكان لكل واحد منهما حجج، وأنت إذا فتحت أضواء البيان للشنقيطي في هذه المسألة ترى عجباً، واستدلالات لطيفة من اللغة؛ لأن مما استدل به على أنه الطهر أن الله قال: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:٢٢٨] الثلاثة إلى العشرة إذا كان المعدود مذكراً فيكون العدد مؤنثاً، وإذا كان المعدود مؤنثاً يكون العدد مذكراً، فإذا كان حيضة ستكون ثلاثُ حيضات، وإذا كان الطهر فإننا نقول: ثلاثة أطهار، فهي ثلاثة، لكن للقائلين بأن المقصود هو الحيض أن يقولوا: إن العدد هذا جاء على المعدود وهو أن القرء مذكر، والعدد مؤنث بطبيعة الحال على القاعدة.

المهم: كان الشافعي يقول: إنه الحيض، وأبو عبيد يقول: إنه الطهر، فلم يزل كلٌ منهما يقرر قوله، ويحتج لقوله بالأدلة والشواهد حتى تفرقا وقد انتحل كل واحدٍ مذهب صاحبه وانتقل إلى رأيه.

وتأثر بما أورده من الحجج والشواهد، وهذه القصة نموذج على اتباع السلف -رحمهم الله- للحق وطلبه في النقاشات العلمية، ولم يكن هَمُّ الواحد منهم أن يظهر ويعلو، ويغلب وينتصر لنفسه، ولكن يبحث عن الحق، فإذا كان الحق مع الطرف الآخر تبعه، وإذا تبين للطرف الآخر أن كلامه ليس براجح فالحمد لله.

يقول السبكي الشافعي عن القصة: إن صحت هذه الحكاية ففيها دلالة على عظمة أبي عبيد، فلم يبلغنا عن أحدٍ أنه ناظر الشافعي ثم رجع الشافعي إلى مذهبه، وأن الشافعي لأول مرة يرجع إلى مذهب شخصٍِ آخر.

وأما بالنسبة لـ ابن تيمية -رحمه الله- فإنه لما تكلم عن أهل العلم الذين يبحثون الليل والنهار عن العلم بدون تعصب لشخص، ولا ميل لطائفة ولا مذهب، بل يرجحون قول هذا الصحابي تارة، وقول هذا الصحابي تارة، بحسب ما يرونه من أدلة الشرع ذكر من هذا الصنف أبا عبيد.

كذلك الذهبي -رحمه الله- لما تكلم عن الاجتهاد، ومن يصلح له، ومن يصلح أن يقلَّد من الأئمة، فذكر ممن يصلح للتقليد أبا عبيد.

قال ابن حجر رحمه الله: إن البخاري في جميع ما يورده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفن؛ كـ أبي عبيد، والنضر بن شميل، والفراء وغيره، أما المباحث الفقهية فغالبها مستمدة له من الشافعي، وأبي عبيد، وأمثالهما.

فـ البخاري استفاد من أبي عبيد في غريب الحديث والفقه.