وكان المسلمون مع قلة عددهم أمام الكفار يثبتون في معارك كثيرة، وكانت أكثر معارك المسلمين فيما مضى ضد النصارى، وحفظ التاريخ لنا موقفاً عظيماً لقائدٍ مسلمٍ سلجوقي تركماني هو ألب أرسلان الملك العادل أبو شجاع من عظماء المسلمين، خرج إليه طاغية الروم أرمانوت في جحافل أمثال الجبال، في نحوٍ من مائتي ألف مقاتل، لا يدركهم الطرف، ولا يحصرهم العدد، كتائب متواصلة، وعساكر متزاحمة، كلما مر ببلدٍ من بلاد المسلمين أقطعها بطارقته وقال: هذه لك يا فلان، وهذه لك يا فلان، يوزعها عليهم حتى وزع بغداد عاصمة الخلافة، وقال للنصراني الذي وهبه البلد هو يأمل أن ينتصر فيوزع البلاد كما وعد وقال لمن جعل له بغداد: استوصِ بالخليفة خيراً، استوصِ بالشيخ، ارفق بذلك الشيخ -يزدري المسلمين- فخرج إليه ألب أرسلان رحمه الله في خمسة عشر ألف فارس فقط، فقال لجنده: أنا صابرٌ في هذه الغزاة صبر المحتسبين، وملاقيهم وحسبي الله عز وجل، فلما التقى الجمعان، ورأى ألب أرسلان كثرة جند الروم، ورأى ما يحير الألباب، ويطير الصواب؛ فأرسل يطلب الهدنة، وفي النهاية عزم على القتال، وكان اليوم يوم جمعة، يريد أن تكون المعركة يوم الجمعة لالتماس دعاء الخطباء، فلما زالت الشمس صلى وقال: ليودع كل واحدٍ صاحبه، فودع كل واحد من جيش المسلمين صاحبه، وتواعدوا على الموت، ولما تواجه الفريقان، نزل السلطان فصلى وسجد لله وعفر وجهه في التراب، ودعا واستنصر، وابتهل وتضرع، وبكى ثم قال: يا أمراء! من أحب أن ينصرف فلينصرف فما هاهنا سلطان يأمر، ولا عسكرٌ يؤمر، فإنما أنا اليوم واحدٌ منكم، وغادٍ معكم، فمن تواضعه لله أعلن تخليه عن الملك في ميدان المعركة تواضعاً لملك الملوك، قالوا: نحن معك تبعناك وأعناك فافعل ما تريد، فلبس الكفن الأبيض وتحنط -أي: وضع من الطيب ما يوضع للميت- ثم قال: إني عازمٌ على الحمل فاحملوا معي، فحملوا معه حملةً صادقة، فوقعوا في وسط العدو فألقى الله في العدو الرعب، فجعلوا يقتلون منهم كيف شاءوا، فلم ينج من النصارى إلا شريدٌ أو أسير، وأنزل الله نصره على المؤمنين، وأسر طاغية الروم أرمانوت، أسره مملوكٌ من مماليك المسلمين، فلما جيء به إلى ألب أرسلان وفي عنق النصراني حبل ملك النصارى، وقائد الجيش الذي كان يوزع بلاد المسلمين وهو يسير إلى المعركة جيء وفي رقبته حبل، فقال: ما تصنعوا بي؟ قال ألب أرسلان: ما تظن أني صانعٌ بك؟ قال: لا أشك أنك تقتلني، قال: أنت أقل في عيني من أن أقتلك، اذهبوا به فبيعوه، فطافوا به جميع العسكر والحبل في عنقه ينادى عليه بالدراهم والفلوس فما يشتريه أحد من المسلمين، حتى انتهوا في آخر العسكر إلى رجل من المسلمين قال: إن بعتمونيه بهذا الكلب الذي معي اشتريته، فجاءوا بالجندي ومعه الكلب الثمن، وبملك النصارى إلى ألب أرسلان مجروراً بالحبل، فأخبروه بأن هذا يريد شراءه بالكلب، فقال ألب أرسلان: الكلب خير منه؛ لأنه ينفع، وهذا لا ينفع، لكن خذوا الكلب، وادفعوا له هذا الكلب، ثم أمر بعد ذلك بإطلاقه وجعل الكلب قريناً له مربوطاً في عنقه وأوصله إلى بلاده؛ فلما رأى الروم ما حل بملكهم عزلوه عن الملك وكحلوا عينيه -أي: غوروهما وأذهبوهما- بعد أن رأوا أنه لا يساوي شيئاً، وهكذا كان حفظ الله للمسلمين عظيماً.