[إجراءات النبي صلى الله عليه وسلم لكتمان الهجرة]
جاء النبي صلى الله عليه وسلم في نحر الظهيرة وفيه: أن التخطيط للهجرة كان دقيقاً، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على قمة الأخذ بالأسباب.
ولذلك فإنه من بداية الأمر اختار الوقت الذي يأتي فيه لـ أبي بكر الصديق يكون الناس نياماً في شدة الحر في الظهيرة (القيلولة).
جاء في نحر الظهيرة في أول الزوال، وأشد ما يكون من حرارة النهار، ويقيل الناس فيها، أتاه ظهراً، فاستغرب آل أبي بكر الصديق قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً، وهذا من الأسباب في إخفاء القضية أيضاً فإنه عليه الصلاة والسلام جاء متقنعاً مغطياً رأسه في وقت يندر أن يوجد أحد يمشي في الطريق.
عرف الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء لأمر مهم، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم -إجراء ثالث- قال: (أخرج من عندك؟) لأن النساء والصبيان يتكلمون، وكم أوتي من أوتي من الحذرين من جهة النساء والصبيان، فقد لا يأبه لهم فيتحدث أمامهم بسره، ثم يتسرب السر عن طريق طفل، أو امرأة.
ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ الأسباب في هذا الأمر الخطير الذي يريد إخفاءه، قال: (أخرج من عندك؟) ولكن الصديق رضي الله عنه يعرف من ربى وكيف رباهم؟ قال: (إنما هما ابنتاي، إنما هم أهلك يا رسول الله) كل من في البيت عائشة وأسماء رباهم الصديق على عينه، يعرف من عنده ويثق وهو على مستوى كلمته التي قالها وأكثر.
(الصحبة يا رسول الله قال: نعم) في رواية قالت عائشة: (فرأيت أبا بكر يبكي وما كنت أحسب أن أحداً يبكي من الفرح) وهذا من إخلاصه رضي الله عنه؛ لأن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة شرف لا يعادله شرف؛ ولذلك بكى الصديق من الفرحة.
فالبكاء: منه: بكاء حزن، وبكاء فرحة، وبكاء دهشة، وبكاء ألم، فالبكاء أنواع، وهذا كان بكاء فرحة.
وعرض الصديق -من كرمه وبذله في سبيل الله- إحدى راحلتيه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا أركب بعيراً ليس لي.
قال: هو لك.
قال: لا.
ولكن بالثمن).
قيل: لماذا لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم عطية صاحبه؟ قالوا: لأنه أراد أن يهاجر من ماله، ويكسب أجر الإنفاق على الهجرة من ماله؛ لأن الهجرة هنا سفر طاعة عظيم كلما أنفق الإنسان فيه كان أكثر أجراً، فأحب ألا تكون هجرته إلا من مال نفسه.
قيل: إن هذه الناقة التي أخذها النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر الصديق بالثمن هي القصواء؛ وقد عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً ثم ماتت في خلافة أبي بكر الصديق.
وجهزت عائشة وأسماء -الفتاتان المؤمنتان- راحلتي النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه -أبيهما- أحث الجهاز وأفضل الجهاز وكُل ما يحتاج إليه في السفر.
(وصنعنا لهما سفرة في جراب) إذاً: الآن تجهيز جيد، والأخذ بالأسباب، حتى نعرف أن قضية الهجرة كان النبي صلى الله عليه وسلم قد رتب لها ترتيباً عجيباً، واتخذ فيها أسباباً مدهشة لتنجح، ليُعلم الأمة كيف يُحكمون أمورهم ولا يتركون مجالاً واحداً للفشل.
(وصنعنا لهما سفرةً في جراب) وعاء للزاد يوضع فيه الزاد من الماء والطعام، قيل: إنه كان في السفرة شاةً مطبوخة.
بقي الآن قضيت الربط؛ بأي شيء يُربط؟ بحثتا عن شيء تربطان به فلم تجدا شيئاً، فشقت أسماء نطاقها؛ والنطاق: حزام تلبسه المرأة على وسطها.
(شقت) جعلته جزأين.
(وربطتا بهما الزاد) شدت بأحدهما الزاد واقتصرت على الآخر.
فسميت أسماء، ذات النطاقين من هذا الفعل.
شقت نطاقها فأوكأن بقطعة منه الجراب، وشدت فم القربة بالباقي على رواية أخرى فسُميت بـ ذات النطاقين.
التخطيط: كان الاتجاه إلى غار في جبل ثور، عكس الجهة، ليس الجهة التي يَتبادر إلى ذهن الكفار أنه هرب منها، قيل: إن خروجهما كان من خوخة في ظهر بيت أبي بكر.
وخروجه صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين.
(ركبا حتى أتيا الغار وهو غار ثور فتواريا فيه) ومن إتمام الخطة أنه جاء: (أنه أمر علياً رضي الله عنه أن يبيت على فراشه).
جاء عند الإمام أحمد من حديث ابن عباس بإسناد حسن كما قال الحافظ رحمه الله في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:٣٠] قال ابن عباس رضي الله عنه: (تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، نقيده ونربطه ونسجنه -يريدون النبي صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه).
(فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم) أي: ينتظرونه حتى يقوم فيفعلون به ما اتفقوا عليه.
فلما أصبحوا ورأوا علياً رد الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بـ الغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليالٍ، وخرجت قريش في كل وجهٍ، أي: في كل جهة تطلب النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعثوا في أثرهما قائفين -القافة: قصاصي الأثر- اشتركوا في التتبع، ورأى كرز بن علقمة أحد القائفين نسج العنكبوت فقال: هاهنا انقطع الأثر، وكمنا في الغار ثلاث ليالٍ.
وهذا سبب آخر من الأخذ بالأسباب المؤدية للنجاح، وبلوغ المطلوب.
والصديق رضي الله عنه بلغ من خشيته وخوفه على النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمشي بين يديه ساعة، وخلفه ساعة، ومرة أمامه ومرة خلفه، فسأله عليه الصلاة والسلام؟ فقال: يا رسول الله أذكر الطلب -أذكر الناس الذين يطلبونك- فأمشي خلفك حماية لظهرك، وأذكر الرصد -الذين يترصدون- فأمشي أمامك، فقال: (لو كان شيئاً أحببت أن تُقتل دوني؟ قال: إي والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار قال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار).
حتى لا يكون فيه دابة، أو شيء مؤذٍ، فاستبرأه ليطمئن إلى أنه مكان آمن؛ لكي يأوي إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
فهل انتهت الأسباب؟ كلا.
لقد كان من الخطة أن عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (وكان شاباً ثقفاً لقناً) ثقف أي: حاذق، لقن أي: سريع الفهم.
كان يبيت مع كفار قريش في مكة في الصباح يستمع لكل الأخبار، ويلتقط الأخبار، ويحفظ كل شيء، (يصبح مع قريش بـ مكة كبائت) لماذا؟ لأنه يرجع قبل الفجر بغلس.
(ثم يأتيهما بعد ذلك بالأخبار لا يسمع خبراً يُكتادان به) أي: من الكيد، لا يسمع خبراً فيه كيدٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق إلا جاءهم به أولاً بأول.
إذاً: الأخبار تصل أولاً بأول، المراسلات والأخبار، وكالة الأخبار تأتي بالأخبار أولاً بأول.
هل انتهت الإجراءات والأسباب؟ لا.
هناك رجل من شخصيات القصة اسمه: عامر بن فهيرة؛ هذا الرجل كان معهما، قام بأدوار: من هذه الأدوار: آثار الأقدام بقاؤها خطير؛ لأن العرب كانوا مشهورين بقص الأثر، ويمكن عن طريق قص الأثر معرفة المكان الذي توجه إليه، إذاً: كان لا بد من إخفاء آثار الأقدام، وكانت الطريقة الطبيعية التي لا تلفت النظر في إخفاء آثار الأقدام أن يؤتى بقطيع غنم تمشي فوق آثار الأقدام لتختلط الآثار وتنطمس، وهذا الذي فعله عامر بن فهيرة، ثم إن الغنم هذه فيها فائدة أخرى، وهي قضية السقاية من لبنها للنبي صلى الله عليه وسلم والصديق، تطمس آثارهما ويستقيان بلبنها، فكان يأتي باللبن الطازج أولاً بأول -من الغنم التي تطمس الآثار- إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
يروح عليهما بالغنم كل ليلة فيحلبان، ثم تسرح بكرةً في الصباح فيُصبح عامر بن فهيرة وغنمه في رعيان الناس فلا يُفطن لها، فالتوقيت كان سليماً؛ للذهاب بالغنم وعودتها، حتى الغنم والدواب الذهاب بها والإتيان بها كان توقيتاً سليماً.
ويوضع لهما في رسلٍ اللبن الطري وكذلك الرضيف، وهو اللبن المرضوف الذي وضعت فيه الحجارة المحماة بالشمس أو النار لينعقد ويشتد وتزول رخاوته، طعام وشراب حتى ينعق عامر بغنمه وهو صوت الراعي إذا زجر الغنم، ثم يسرح بها في رعيان الناس فيذهب في وقت صحيح لا يُتفطن له، هذا كان من بني الدِيل، من بني عبد بن عدي.
لم تنته القضية بل هناك شخصية أخرى مهمة لها دور أيضاً: وهو عبد الله بن أريقط؛ هذا رجل مشرك، لكنه كان رجلاً مأموناً موثوقاً به، ولماذا اختير عبد الله بن أريقط رغم أنه مشرك؟ لأنه كان هادياً خريتاً، خبيراً بالطرق، والمسارات، ودروب الصحراء، والخريت: هو الماهر بالهداية مثل: خرت الإبرة أي: ثقب الإبرة، لأنه يهتدي لأخرات المفازة وهي طرقها الخفية، وهذا الرجل كان قد غمس حِلفاً تحالف؛ وكانوا بالجاهلية إذا تحالفوا يغمسون أيديهم في دم أو عطر يكون فيه صبغ لليد وتأكيد للحلف الذي تحالفوا عليه.
هذا الرجل كان أميناً ثقةً بالرغم من أنه مشر