وكان الشنقيطي -رحمه الله- في أول أمره وهو في سن الطفولة ميالاً للهو واللعب كغيره من الأطفال، قال: كنت أميل للهو واللعب أكثر من الدارسة حتى حفظت الحروف الهجائية، وبدءوا يقرءونني إياها بالحركات، بَ فتحة، بِ كسرة، بُ ضمة، وهكذا التاء والثاء، فقلت لهم: أو كل الحروف هكذا؟ إني أستطيع قراءتها كلها على هذه الطريقة، فتركوني فقرأتها، قال: ولما حفظت القرآن وأخذت الرسم العثماني وتفوقت فيه على الأقران، عنيت بي والدتي وأخوالي أشد العناية، وعزموا على توجهي للدراسة في بقية الفنون، فجهزتني والدتي بجملين، أحدهما عليه مركبي وكتبي والآخر عليه نفقتي وزادي، وصحبني خادم ومعه عدة بقرات وقد هيئت لي مركبي كأحسن ما يكون من مركب، وملابسي كأحسن ما تكون فرحاً بي، وترغيباً لي في طلب العلم إلى أن قال: هكذا سلكت سبيل الطلب والتحصيل.
فإذاً الدرس العظيم الذي نأخذه من هذه القصة، أن تنشئة الأطفال على طلب العلم وإظهار الفرح بهم إذا حفظوا شيئاً أو نبغوا في شيء، وإعطائهم من الدنيا والأعطيات والهدايا والملابس الجميلة ونحو ذلك، وبيان قدرهم ورفعة شأنهم من الأشياء التي تحمس الولد على الطلب، وهكذا كانوا يعتنون به ولا شك أن مثل هذه الأم في هذه العناية تخرج مثل الشنقيطي رحمه الله تعالى.
وبعد ذلك سار في هذا المركب، يطوف على أهل العلم في القرى التي حوله يحصل ويجلس إليهم، وقال: قدمت على بعض المشايخ لأدرس عليه ولم يكن يعرفني من قبل، فسأل عني من أكون في ملأ من تلامذته، فقلت مرتجلاً:
هذا فتى من بني جكان قد نزلا به الصبا عن لسان العرب قد عدلا
رمت به همة العلياء نحوكم إذ شام برق علوم نوره اشتعلا
فجاء يرجو ركاماً من سحائبه تكسو لسان الفتى أزهاره حللا
إذ ضاق ذرعاً بجهل النحو ثم أبى ألا يميز شكل العين من فعلا
وقلنا: عين الفعل من أكثر المشكلات في دراسة اللغة العربية، وما هي التغيرات التي تطرأ على عين الفعل، وأنواع الأفعال بالنسبة لعين الفعل، قال:
وقد أتى اليوم صَبّاً مولعاً كلفاً فالحمد لله لا أبغي له بدلا
وهذا إشارة إلى قصيدة لامية الأفعال، المبدوءة بالحمد لله، وقصد بقوله شكل العين دارسة قصيدة لامية الأفعال على هذا الشيخ، ولما لُوحِظت نجابته أذن له مشايخه بأن يقرن بين كل فنين -مع أن العادة عندهم عندما يبدأ الطالب لا يجمع أكثر من فن واحد- تفرساً فيه، وحرصاً على سرعة تحصيله، فانصرف بهمة عالية.