لقد طابت نفوس الأنصار بما سيبذلونه لإخوانهم من عون، ووصل الأمر لدرجة أن سعد بن الربيع الأنصاري يقول لـ عبد الرحمن بن عوف المهاجري: إن لي مالاً فهو بيني وبينك شطران، ولي امرأتان فانظر أيهما أحب إليك، فأنا أطلقها، فإذا حلت -أي: بعد العدة- فتزوجها.
إننا يسهل علينا أن نتصور أن يتنازل الواحد عن نصف ماله للآخر، لكن لا يسهل علينا على الإطلاق أن نتصور أن رجلاً يتنازل عن زوجة لآخر، ويطلقها من أجل الآخر؛ لأن العلاقة الزوجية قوية، وليس من السهل على الإنسان أن يتنازل عن زوجته، لكن لما صار الإيمان قوياً في قلوبهم، قال: هاتان زوجتاي -قبل فرض الحجاب- انظر أيهما أحب إليك، ليس الزوج هو الذي ينتقي إحدى زوجاته، أو يترك أقلهما تعلقاً بها وأقلهما محبة، لا.
بل المهاجري هو الذي ينتقي، يقول: اختر أيهما تريد أطلقها لك.
ولاشك أن ذلك كان آية من الآيات الدالة على تعمق الإيمان، وترسخ قواعد الأخوة في نفوسهم؛ لأن مثل هذا العمل لا يمكن أن يقوم به الشخص في الأحوال العادية، إلا إذا صار عنده إيمان ودين فعلاً، فإذا قارنت الآن بين هذا وبين ما يحدث الآن بين عامة المسلمين من أنواع الإيذاء وأكل الحقوق الواضحة للغاية، وهضم الحقوق المالية والاستيلاء عليها، والإيذاء بين الجيران والإخوان، والأشياء التي توجد فيها الأنانية والحسد والبغض، وسطو هذا على مال هذا، وإذا وجد هذا فرصة لأكل حق الآخر أكله دون أن يقصر، والأذية الموجودة لنعلم ما هو الفرق بيننا وبين الصحابة.
عبد الرحمن بن عوف لما عرض عليه هذا العرض المغري لم يكن بالذي يوافق عليه، ويقول: طلق فلانة أو هات نصف المال، وإنما كان عفيفاً، والعفة مهمة، عفة النفس: أي: أن الإنسان لا يقبل بأعطيات الآخرين إذا لم يكن هناك شيء ماس، ولذلك قال عبد الرحمن لـ سعد: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فلم يرجع إلا بسمن وأقط قد أفضله، ذهب إلى السوق وهو رجل يحسن التجارة، باع واشترى، وباع واشترى، ورجع بفائض من سمن وأقط، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم عليه أثر صفرة بعد فترة، فقال:(مهيم؟ -ما الخبر؟ - عليك أثر صفرة الزعفران -هذا ليس من شئون الرجال بل هو من شئون النساء- فقلت: تزوجت امرأة من الأنصار -هذا من نتائج احتكاكه بزوجته- فقال عليه الصلاة والسلام: أولم ولو بشاة) أمره أن يولم ولو بشاة.
وتزوج عبد الرحمن بن عوف، وكان المهر نواة من ذهب أصدقها لتلك المرأة، ونمت ثروته بعد ذلك ليصبح من كبار أغنياء المسلمين، وهذا فيه درس، أن الإنسان إذا كان صاحب خبرة وقدرة فلا يصلح أن يكون عالة على الآخرين، حتى لو تبرع له الآخرون، وحتى لو أعطوه وعرضوا عليه، تبقى عزة النفس عند الإنسان، صاحب القدرة بالذات أما غير صاحب القدرة وغير المتمكن يُعذر، لكن المتمكن يبقى الأفضل له أن يكون عصامياً بنفسه، وأن يكسب كسبه بيده، وهذا الذي فعله عبد الرحمن بن عوف -وهو التاجر الماهر- من الذهاب إلى السوق والكسب الحلال، وما فتح الله عليه أفضل من أن يكون عالة أو عبئاً على أخيه الأنصاري.
بعد معركة بدر وزعت الغنائم وصار هناك شيء من الاكتفاء بالغنائم عند المهاجرين؛ لأن كثيراً من الذين خرجوا فيها من المهاجرين، وصار هناك شيء من الاكتفاء، فأُبطل نظام التوارث بين المتآخيين، بقوله تعالى:((وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)) لكن نسخ هذه الآية ليس نسخاً للمؤاخاة، وإنما نسخ للتوارث فقط، فقد بقيت المؤاخاة بالنصرة والرفادة والنصيحة، وبقيت العلاقة موجودة بينهم.
ولذلك فإن التعاون والتناصح مستمر، ووردت أخبار تفيد التآخي بين أبي الدرداء وسلمان الفارسي رضي الله عنهما، مع أن سلمان أسلم بين أحد والخندق، ومع ذلك المؤاخاة استمرت بدون توارث، وكان سلمان له ملاحظات على أبي الدرداء صائبة أسداها له، وكان فيها خير عظيم على أم الدرداء وعلى بيت أبي الدرداء وعلى أبي الدرداء، وهذه لما بين له حقوق الضيف وحقوق النفس وحقوق الزوجة، وكان هذا التآخي ينبع منه تقديم النصيحة، وهذه مسألة في غاية الأهمية، أن التآخي بين المسلمين ليس كلمة، وإنما هو شيء له واجبات ومتطلبات، ومنها بذل النصيحة، وتسديد وإصلاح شأن أخيه وحاله.