للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أدب الأنبياء مع الله عز وجل]

أما بالنسبة للأدب مع الله عز وجل: فقد كان كثيراً وعظيماً في أنبيائه سبحانه وتعالى، ومن تأمل أحوال الرسل عرف ذلك، وكذلك الصالحون، ألم ترَ أن المسيح عليه السلام حين يسأله الله يوم القيامة: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ} [المائدة:١١٦] فماذا أجاب عيسى عليه السلام؟ ما قال: لم أقل ذلك! وإنما قال: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة:١١٦] من أدبه مع ربه أنه قال: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة:١١٦]، ثم قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:١١٦ - ١١٧] إلى آخر الآيات.

وكذلك أدب إبراهيم مع ربه، لما قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:٧٨ - ٧٩] لم يقل: والذي يمرضني ويشفين، وإنما قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:٨٠] فنسب المرض إليه، ونسب الهداية والطعام والسقاء والشفاء إلى الله رب العالمين، مع أن الله هو الذي يمرض ولا شك!! وهو الذي يشفي، لكن لم يرد أن ينسب المرض إليه عز وجل أدباً مع الله سبحانه وتعالى، هذا من كمال أدب الخليل، فإنه قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:٨٠] وكذلك الخضر عليه السلام، على الراجح أنه كان نبياً: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:٨٢] كان يفعل بالوحي، فإنه لما ذكر السفينة قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:٧٩] ولما ذكر الجدار قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف:٨٢] ولم يقل: فأراد ربك أن أعيبها، وإنما قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:٧٩] لما صارت المسألة فيها عيب نسبه لنفسه، قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:٧٩] مع أن كل ذلك بأمر الله وقدر الله.

وكذلك الصالحون من الجن قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:١٠] ما قالوا: أشرٌ أراده ربهم بهم أم أراد بهم ربهم رشداً وإنما قالوا: {أَشَرٌّ أُرِيدَ} [الجن:١٠] فجعلوا الفعل مبنياً للمفعول.

وكذلك موسى عليه السلام لما نزل مدين قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:٢٤] أنا فقيرٌ إلى خيرك يا رب ومحتاج، ولم يقل: أطعمني مثلاً، وآدم عليه السلام لما أهبط من الجنة إلى الأرض قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣] ولم يقل: ربي قدرت عليَّ هذه المعصية، وقضيت عليَّ بها ونحو ذلك، وإنما قال: ظلمت نفسي فاغفر لي.

وكذلك قول أيوب عليه السلام: {رَبِّ إِني مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:٨٣] وهذا أكثر أدباً من أن يقول: فعافني واشفني، قال: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:٨٣].

والأدب كذلك مع أنبياء الله طويل لا ينتهي، ولكن من أدب يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته، وهو نوع من أنواع الأدب مع المخلوقين، والأدب مع الأنبياء، قال: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:١٠٠] ولم يقل: أخرجني من الجب، مع أنه أخرجه من الجب، لأنه لا يريد أن يجرح مشاعر إخوانه فقال: {أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:١٠٠] ولم يذكر الجب، وكذلك فإنه لما جاء بإخوته وأهله، قال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:١٠٠] ما قال مثلاً: رفع عنكم الجهد والجوع والحاجة، أو أنني فعلت ذلك لكم، أو أنني أنقذتكم من الجوع والجهد، ثم قال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:١٠٠] فنسب الفعل إلى الشيطان، ولم يقل من بعد أن فعل بي إخواني ما فعلوا وظلموني ونحو ذلك، وإنما قال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:١٠٠].

وكذلك من الأدب مع الله سبحانه وتعالى: أن يستر الرجل عورته وإن كان خالياً، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد ضرب المثل العظيم في الأدب مع ربه، كما يذكر المفسرون عند قوله سبحانه وتعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:١٧] أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ارتفع إلى السماء ما زاغ بصره وما طغى، فإنه لم يزغ يميناً أو شمالاً، ولا طغى فنظر أمام المنظور، وإنما كان مطرقاً: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:١٧] فهذا وصفٌ لمقامه صلى الله عليه وسلم، وهذا من كمال الأدب.