[الأنس بالله عز وجل]
كذلك من الأمور التي تدل على محبة العبد لله عز وجل: أن يكون أنسه الخلوة بالله: أي: يرتاح تماماً عندما يخلو بالله؛ في الصلاة، في الثلث الأخير من الليل، ومعنى يخلو: ينقطع عن الناس أحياناً وليس دائماً، حسب المصلحة الشرعية إلى الله عز وجل، يخلو به ويذكره ويدعوه بينه وبين نفسه، ليس هناك واسطة بينهما، فيتلو كتاب الله، ويجتهد ويواظب ويغتنم هدوء الليل وصفاء الوقت وانقطاع العوائق والعلائق الدنيوية، ويُقْبِل على الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩].
فمتى فعل الإنسان هذه الأشياء صارت محبة الله عز وجل تسهِّل له هذه الطاعات وتحثه وتدفعه عليها، ويكون في لذة أعظم من لذة الظمآن عندما يشرب الماء البارد، وأعظم من لذة الجائع شديد الجوع عندما يجد الطعام الشهي.
فلذلك -أيها الإخوة- المؤمنون عندما يحبون الله يكلمونه ويدعونه، يرفعون أيديهم ويدعون، يحبون أن يتكلموا مع الله ويخاطبون ربهم، إذا أحب الإنسان شخصاً أحب أن يتكلم معه وأن يخاطبه وأن يجاذبه أطراف الحديث، وأن يفضي إليه بهمومه وأشجانه، وأن يصارحه بما عنده، هذا ما يقع الآن بين الأشخاص في الدنيا.
فإذا أحب الإنسان الله فإنه يحب أن يتكلم مع الله.
كيف يتكلم مع الله؟! جاء الحديث بتوضيح هذا: (من أراد أن يتكلم مع ربه فليقرأ القرآن) يدعو الله عز وجل، يشكو حزنه إلى الله، يقول يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:٨٦] ما قال: إلى فلان وفلان {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:٨٦] إلى الله عز وجل مباشرة.
فليس هناك -أيها الإخوة- أطيب من الخلوة بالله عز وجل، ومناجاته، والمثول بين يديه، والانقطاع عن الخلق من أجل الخلوة بالله عز وجل، ومن أعظم الخلوات: الصلاة؛ لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرتاح جداً عندما يصلي، وكان يقول لـ بلال: (يا بلال! أرحنا بالصلاة) وهذا من معاني قول بعض السلف: " إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة "، ما هي جنة الدنيا؟ اللذة الحاصلة بالطاعات، (أرحنا بالصلاة يا بلال!).
فيقول ابن القيم رحمه الله: " فالصلاة قرة عيون المحبين، وسرور أرواحهم، ولذة قلوبهم، وبهجة نفوسهم، يحملون هم الفراغ منها إذا دخلوا فيها، كما يحمل الفارغ البطال همها حتى يقضيها بسرعة ".
فهؤلاء المحبون إذا دخلوا في الصلاة فهم في هَمٍّ.
ما هو هذا الهم؟ كيف ستَنْتَهي الصلاة؟! ماذا نعمل بعد أن تنتهي الصلاة؟! يقولون: نحن نريد أن نبقى في صلاة، وهذه مرتبة كبيرة، فالواحد لو فكر في نفسه يجد مراحل بين حال هؤلاء وحالنا، إذا دخل في الصلاة صار مهموماً لأن الصلاة ستنقضي، يحمل هَمّاً وهو داخل الصلاة، مصيبة! ستصير المصيبة أنه سينتهي من الصلاة، كما يحمل الفارغ البطال هَمَّ الصلاة؛ متى تنتهي الصلاة؟! انظر الفرق بين الطائفتين! يدخل بعض الناس في الصلاة فيقول في نفسه: طوَّل الإمام! فتراه يتثاقل، ويقدم رِجْلاً ويؤخر أخرى، ويتأفف في الصلاة، هذا في الصلاة، أولاً: متى تنتهي؟! وبعد الصلاة يتبرم ويشتكي ويرفع صوته في المسجد فيقول للإمام: طولت علينا، وبعد ذلك يخرج من الصلاة فيقول: الله لا يبارك في فلان.
ما هو الفرق؟! فكلهم بنو آدم! وكلهم بشر! الفرق: محبة الله عز وجل! يحس الواحد عندما يكبر في الصلاة أنه يُقْبِل على الله، وأن الله قد انتصب أمامه؛ لأن الله عز وجل ينتصب لعبده في الصلاة، لذلك الإنسان يستأنس عندما يصلي ويكبر ويُقْبِل على الله عز وجل.
" فلهم فيها شأن -للمحبين في الصلاة شأن- وللنقَّارين شأن -النقارون الذين ينقرون الصلاة مثل نقر الغراب أو نقر الديك، لا تلحقه، يسرع، لا تدري هل قال الرجل: (سبحان ربي الأعلى) نصف مرة أو ربع مرة - فله فيها شأن، وللنقَّارين شأن آخر، يشكون إلى الله سوء صنيعهم بها -هؤلاء المحبون يشكون إلى الله سوء صنيع البطالين بالصلاة، كيف ينقرونها نقراً؟! - إذا أتموا بهم، كما يشكو الغافل المعرض تطويل إمامه -شخص يشتكي من الإمام، أحياناً يأتم بواحد مخل بالصلاة يشتكي من فعله بالصلاة ومن تخريبه، وآخر يشتكي من تطويل الإمام في الصلاة- فسبحان من فاضل بين النفوس وفاوت بينها هذا التفاوت العظيم.
وبالجملة: فمن كانت قرة عينه في الصلاة فلا شيء أحب إليه، ولا أنعم عنده من الصلاة، ويود أنه لو قطع عمره بها غير مستغنٍ بغيرها وإنما يسلي نفسه إذا فارقها بأنه سيعود إليها عن قرب ((ورجل قلبه معلق المساجد) كلما خرج من صلاة بماذا يفكر؟! متى يأتي وقت الصلاة الجديدة؟! - فهو دائماً يتوق إليها، فلا يزن العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة -ليس هناك أعظم من ميزان الصلاة- فإنه الميزان العادل ".
لذلك -أيها الإخوة- من الحكم كما يقول ابن القيم رحمه الله في النهي عن المرور بين المصلي وبين السترة: أن الإنسان عندما يكبر في الصلاة يقف أمام الله عز وجل، لذلك يكره الإنسان أي شيء يمر أمامه ويقطعه عن الله عز وجل، فلذلك أمر صلى الله عليه وسلم بدفع المار، ونهى عن المرور بين الرجل وبين سترته.
فحالُ المحبين الصادقين -أيها الإخوة- هي في الدوام على طاعة الله عز وجل، ولذلك ورد في عدة أحاديث أشياء يحبها الله تعالى، فمن ذلك: (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قلَّ) فالأشياء التي يداوم عليها صاحبها هي أحب الأعمال إلى الله؛ لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته، يعني: دائماً يعمل به، ما ينقطع مرة ويترك مرة ويفعل مرة، فكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار -بعد طلوع الشمس- اثنتي عشرة ركعة، وهي السنة لمن فاتته صلاة الوتر في الليل.
هذه الصلاة -أيها الإخوة- تحتاج إلى مكابدة، ما تأتي اللذة بها هكذا، تحتاج إلى مجاهدة.
لذلك يقول أحد السلف: " كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة أخرى " يعني: جلست فترة طويلة حتى أعود نفسي على أن ألتَذَّ بالصلاة، وبعد فترة من الجهاد وصلت إلى المرحلة التي أحس بها في اللذة، لأنه لا يعقل -أيها الإخوة- أن الإنسان إذا قام إلى الصلاة وكبر مباشرة يشعر باللذة، لا.
إن اللذة تحتاج إلى مقاومة ومدافعة للوساوس وللشيطان وللدنيا، والمجاهدة على التطويل في الصلاة، وعلى الخشوع، وعلى استحضار معاني الآيات وعلى التفكير، هذا معروف، لا بد من التدرج حتى يصل الإنسان إلى مثل هذه المراحل.
تظهر محبة العبد لله على فراش الموت: عند الموت يخرج قلب الإنسان ما فيه كأنك ضغطت على زر مسجل والشريط ظل يتكلم بدون إرادة من المسجل.
إن الإنسان في الحياة -يا إخواني- يستطيع أن يسيطر على نفسه، فقد يخفي في قلبه شيئاً ولا يظهره للناس، عنده قوة تحكم وإرادة بهذا، أما عند الموت -الموت إذا نزل نسأل الله السلامة وأن يسلمنا وإياكم في ذلك الموقف الذي لا بد أن يأتي- عند الموت يفقد الإنسان قدرته على التحكم في إظهار ما في قلبه، فتبدأ الأشياء التي في قلبه تظهر على لسانه، فأما من كان محباً لله عز وجل فتظهر الشهادة على لسانه عند الموت وذكر الله بكل يسر وسهولة، لماذا؟ لأن هذا ما يخفيه في قلبه؛ لكن كثيراً من الناس والعياذ بالله يحصل لهم من سوء الخاتمة الأمور العجيبة فتظهر في حال الاحتضار على فراش الموت المكنونات التي كانت مخبأة في القلوب، بعضهم على فراش الموت كان يغني أغنية؛ لأن قلبه متعلق بالأغاني ويحب الأغاني ودائماً يردد الأغاني، ولو أن إنساناً من هؤلاء الإخوة الذين يسمعون الأغاني يحاسب نفسه: هل يردد الأغاني أكثر أو ذكر الله؟ يجد أنه يردد الأغاني أكثر: لأن في السيارة أغاني، وفي البيت أغاني، وينام على الأغاني، ويصحو على الأغاني وهكذا ديدنه، لذلك لا يستبعد حال الموت أن لسانه ينخرس عن ذكر الله ويظهر ما في القلب مباشرة، وهذا حصل في الواقع، وهناك قصص كثيرة لأناس جاءهم الموت وهم يرددون مقطعاً من أغنية لفلان وفلان.
وأحدهم قابل أصحاب حادث سيارة على الطريق، فوجد أحدهم النزع الأخير وهو يشتد، فأراد أن يذكره بـ (لا إله إلا الله) قال: قل: (لا إله إلا الله)، فكان يقول: (إِتِّي إِتِّي) يشجع الاتفاق أو الاتحاد، يشجع فريقاً.
وبعضهم كان يحب المال والتجارة بشكل كبير طغى على محبته لله عز وجل، فصار وهو على فراش الموت يقول -وأخبرني رجل قريب له أنه حضره عند الموت، وكان تاجراً يبيع القماش فجعل يقول: هذه قطعة جيدة، هذه على قدرك، هذه مشتراها رخيص، يساوي كذا وكذا، حتى مات.
وبعضهم يقول: بعتُ واشتريت بفلس بفلس.
وبعضهم يقول: شاه ملك، يعني: مات؛ لأنه كان يلعب الشطرنج وهو مغرم به، فكان يقول: مات، يعني: في اللعبة هذه.
وهكذا تظهر الأشياء الحقيقية في تلك اللحظة.
أما المحبون لله فماذا يظهر على ألسنتهم؟ تظهر الشهادتان؛ لذلك كان لا بد من الإخلاص في الأعمال، ومجاهدة النفس للتخلص من الرياء؛ لذلك كان اهتمام السلف بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، يعني: أن يكون العمل خالصاً لله عز وجل.