قال عليه الصلاة والسلام:(وتبقى هذه الأمة) يحتمل أن يكون المراد بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يراد ما هو أعم من ذلك؛ فيدخل فيهم من كان من بقية الأمم ممن كان في الدنيا -ولو ظاهراً- يعبد الله، فبعدما ذهب أهل المعبودات مع معبودات إلى النار يبقى من كان يعبد الله ولو ظاهراً؛ يبقون ليأتيهم الله عز وجل فيقودهم إلى الصراط (تبقى هذه الأمة فيها منافقوها) وفي رواية: (حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر) فلو كان هناك رجل موحد لكنه فاجر فاسق زاني شارب خمر سارق مرتشي، هؤلاء ما حالهم؟ قال:(حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر.
وفي رواية: وغبرات أهل الكتاب) الغبرات: جمع غابر، والمقصود بهم من كان يوحد الله من أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب فيهم الموحد وفيهم المشرك، فيهم الموحد مثل ورقة بن نوفل رضي الله عنه، وغيره في بقايا أهل الكتاب، وفيهم المشرك.
يبقى في النهاية الموحدون من المسلمين والموحدون من أهل الكتاب، ويبقى الفجرة الموحدون أيضاً ويبقى المنافقون، فما هو شأن المنافقين؟ لما كانوا يتسترون للمؤمنين في الدنيا بقوا معهم، والذي يحصل أنهم يتميزون في ذلك المقام، ظن المنافقون أن تسترهم بالمؤمنين ينفعهم في الآخرة، كما كان ينفعهم في الدنيا، فيحشرون معهم، كما كانوا يظهرون الإسلام يحشرون مع أهل الإسلام، لكن سيحدث تمييز عندما يأتي الله تعالى في صورته الحقيقية، فيطلع عليهم رب العالمين، والمؤمنون يعرفونه بصفاته مع أنهم لم يروه من قبل في الدنيا، لكن إذا جاء الله إلى البقية الباقية في أرض المحشر -بعد ما ذهب اليهود والنصارى، وعبدة الأوثان، وعبدة بوذا، وعبدة الكواكب، وعبدة النار المجوس، وعبدة الطواغيت من البشر، كلهم ذهبوا إلى جهنم مع معبوداتهم حطباً- فماذا يحصل؟ يرون الله فيعرفونه، فكيف عرفوه وهم ما رأوه من قبل؟ يعرفونه بأسمائه وصفاته التي كانوا يعرفونها في الدنيا، وهذا ما يبين أهمية توحيد الأسماء والصفات، فإن معرفة صفات الله تعالى في الدنيا هو الذي يقود إلى معرفته عز وجل في الآخرة، فيقول لهم:(أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا) وفي رواية: (ثم يقال بعد ذلك للمؤمنين: هل بينكم وبينه علامة؟ أي: آية تعرفونها، فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه سبحانه وتعالى)، وصفاته لا تشابه صفات البشر؛ فلا يده كأيديهم، ولا وجهه كوجوههم، وهكذا في سائر صفاته سبحانه.
فإذا رأوا الساق -العلامة- سجد المؤمنون سجوداً صحيحاً، وأما المنافق فينكشف في هذا الموقف بالعلامة، فالعلامة هي التي تميز وتكشف، قال عليه الصلاة والسلام:(ويبقى من كان يسجد رياءً وسمعة)، الذي كان منافقاً في الدنيا وكان يسجد رياءً وسمعة (فيصير ظهره طبقاً واحداً) يستوي فلا ينثني الظهر، يصبح متصلباً، وفي رواية مسلم:(فلا يبقى من كان يسجد من تلقاء نفسه إلا أذن له في السجود) أي: هون عليه وسهل له ومكن منه، (ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقاً واحداً كلما أراد أن يسجد خر لقفاه) وفي رواية ابن مسعود: (وتبقى أصلاب المنافقين كأنها صياصي البقر)، وفي رواية الحاكم:(وتبقى ظهور المنافقين طبقاً واحداً كأنما فيها السفافيد) والسفافيد: جمع سفود، والسفود هو السيخ العظيم الذي يدخل في الشاة عند شوائها؛ لكي تتماسك على السيخ فيجعل الله ظهور المنافقين طبقاً واحداً، كأنما السفافيد في هذه الفقرات، وهي مضمومة بها سيخ، فلا يمكن أن ينثني، فلذلك كلما أراد أن يسجد وقع.
في رواية علي بن عبد الرحمن قال:(ثم يطلع عز وجل عليهم فيعرفهم نفسه بالآية ثم يقول: أنا ربكم فاتبعوني فيتبعه المسلمون، يكونون في ذلك تابعين لربهم كما عبدوه يتبعونه) أولئك عبدوا الصليب اتبعوا الصليب، عبدوا البقر اتبعوا البقر، وهؤلاء عبدوا الله فيتبعون الله، فإلى أين يقودهم عز وجل؟ يقودهم إلى الصراط، وهذه الرؤية التي تحصل في أرض المحشر غير الرؤية التي تقع في الجنة فهذه رؤية الامتحان، وتلك لزيادة الإكرام، ورؤية الجنة هي المقصودة بقوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[يونس:٢٦] الحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله عز وجل، هناك امتحانات في الموقف تابعة لامتحانات الدنيا، فالذي رسب هناك يرسب هنا، والذي نجح هناك ينجح هنا، ولا تنقطع الامتحانات إلا بالاستقرار في الجنة أو النار، والقبر أو منازل الآخرة وفيه ابتلاء وامتحان بفتنة السؤال وغير ذلك، وكما يكون في الدنيا تكاليف ففي الآخرة تكاليف قبل دخول الجنة وقبل دخول النار.