[الشنقيطي وطريقته في القضاء]
اشتغل بالتدريس والفتيا عند خروجه من مسقط رأسه للحج، حيث وجد أرضاً متعطشة للعلم، ولذلك أفتى ودرس وحكم في طريق رحلته إلى الحج ماراً بقرية كيفا في موريتانيا، وتامشقط والعيون والنعمة وغيرها.
وكان مروره في هذه القرى على بعير ثم باعه في قرية النعمة وركب السيارة، وقلنا: لعله أراد بذلك الاستعجال لإدراك موسم الحج قبل فواته، فالرحلة كانت تأخذ وقتاً طويلاً حتى يصل إلى مكة، وأكمل الطريق إلى قرية فاوى مروراً ببلد بنيامي عاصمة النيجر الفرنساوية في ذلك الوقت، وقرية الجنينة، وبلدة أندرمان في السودان، وسيأتي ذكر بعض فوائد هذه الرحلة العظيمة جداً في رحلة الشنقيطي رحمه الله في الحج، وهذا مؤلف مستقل رحلة الحج للشنقيطي رحمه الله.
وطريقته في القضاء أنه إذا أتاه الطرفان استكتب رغبتهما في التقاضي أولاً حتى يذعنا للحكم، يستكتب المدعي دعواه ويكتب جواب المدعى عليه في أسفل كتابة الدعوى، ثم يكتب الحكم مع الدعوة والإجابة، ويقول لهما: اذهبا إلى من شئتم من المشايخ أو الحكام أي: القضاة، فلا تأتي هذه العريضة واحداً من المشايخ إلا أقرها وصدق عليها عندما يرى قضاء الشنقيطي وحكمه فيها رحمه الله.
وكان يقضي في كل شيء إلا في الدماء والحدود، من ورعه رحمه الله، وقد كُونت لجنة بمسمى لجنة الدماء وطُلب من الشيخ الشنقيطي أن يكون فيها، فكان أحد أعضاء هذه اللجنة ولم يخرج من بلاده حتى علا قدره وعظم تقديره رحمه الله.
ألف في صغره كتاباً أو نظماً في أنساب العرب قبل البلوغ، قال في أوله:
سميته بخالص الجمان في ذكر أنساب بني عدنان
قبل البلوغ، إن أولادنا الآن يلعبون بالأتاري، وبعد البلوغ يلعبون بالأتاري أيضاً، أما الشنقيطي فكان يؤلف نظماً في أنساب العرب، ولكنه بعد البلوغ دفنه، وقال: لأنه كان على نية التفوق على الأقران، لم يكتبه بنية خالصة، وقد لامه بعض المشايخ على دفنه، وقالوا: كان من الممكن تحويل النية وتحسينها، لكنه لم يفعل ذلك، وكتب رجزاً في فروع مذهب مالك، يختص بالعقود من البيوع والرهون يبلغ آلافاً متعددة، يقول فيها:
الحمد لله الذي قد ندبا لأن نميز البيع عن نفس الربا
ومنى بالمؤلفين كتبا تطرد أطواد الجهالة هبا
تكشف عن عين الفؤاد الحجبا إذا حجاب دون علم ضربا
أشار رحمه الله إلى هذا النظم في مصنفه في التفسير، وفي قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} [البقرة:٢٧٦] وعلق ما نصه: وقد كنت حررت مذهب مالك في ذلك في الكلام على الربا في الأطعمة، في نظم لي طويل في فروع مالك، بقولي:
وكل ما يُذاق من طعام ربا النسي فيه من الحرام
مقتاتاً أو مدخراً أو لا اختلف ذاك الطعام جنسه أو ائتلف
وكذلك كما قلنا: إن مسائل الأطعمة من المسائل التي اختلف العلماء في علة الربا فيها، الآن الذهب بالذهب مثلاً بمثل والفضة بالفضة مثلاً بمثل، إذا زاد أو لم يحدث تقابض فهو ربا، وكذلك التمر بالتمر، صاع بصاعين ربا، القمح بالقمح والشعير بالشعير والملح بالملح.
بقية المطعومات وبقية الأشياء، والرز لم يذكر في الحديث، هل يقاس عليها أم لا؟ وهذه الأشياء كالزبيب والأشياء الأخرى التي لم تذكر مثل اللحوم، هل يجري فيها الربا أم لا؟ وغير ذلك من الثمار ونحوها ما هو الضابط، إذا بعت كيلوين بكيلو هل يصير ربا؟ ما هو الضابط؟ ما هي حدود الأشياء التي يجري فيها الربا؟ قيل الطعام.
وقال بعضهم: العلة الوزن، إذا كانت الأطعمة توزن، أما إذا كانت معدودة كتفاحتين بتفاحة، مثلاً فلا بأس وهكذا.
والآن صارت بعض الأشياء توزن، وبعض الأشياء كانت تباع بالعدد، البيض مثلاً أو التفاح تباع بالعدد، الآن يباع بالوزن، فهل الآن لما صار الناس يجرون على الوزن تغيرت المسألة الأولى؟ هذه مسألة عويصة فيها نقاش طويل، فقال في المنظومة:
وكل ما يذاق من طعام ربا النسي فيه من الحرام
مقتاتاً أو مدخراً أو لا اختلف ذاك الطعام جنسه أو ائتلف
وإن لم يكن يطعم للدواء مجرداً فالمنع ذو انتفاء
إلى آخر الكلام، فكانت هذه إشارة إلى هذه المسألة، المقصود أنه ألف نظماً في هذا، ثم ألف نظماً في الفرائض
أولها تركة الميت بعد الخامس بخمسة محصورة عن سادس
وحصرها في الخمس بالاستقراء وانبذ لحصر العقل بالعراء
إلى آخر القصيدة، وكذلك فإنه رحمه الله تعالى قد ألف منظومات أخرى، ولما عزم على الحج ركب في رحلته المشهورة الزاخرة إلى الحج بأنواع المحاضرات والدروس، والمناظرات، والنكت الأدبية، والعلمية، والفوائد والشروحات التي حصلت وكتابة الفتاوى، وكتابة القضايا، رحمه الله تعالى.