[آية ضيافة إبراهيم وفقه ابن القيم فيها]
خذ مثلاً قول الله عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:٢٤ - ٢٧] هذه الآيات استنبط ابن القيم رحمه الله منها خمسة عشر أدباً من آداب الضيافة.
أولاً: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون.
ثانياً: قال: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الذاريات:٢٥] فلم يذكر استئذانهم، ففي هذا دليل على أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان قد عرف بإكرام الضيفان، فبقي منزله مضيفة مطروقاً لمن ورده لا يحتاج إلى الاستئذان.
ثالثاً: قوله {سلامٌ} بالرفع، وهم قالوا: {سلاماً} وهذه جملة فعلية دالة على التجدد والحدوث والتغير، لكنه قال: سلامٌ، وهذه جملة اسمية، والجملة الاسمية تدل على الثبات فليست متغيرة، فكان رد سلامه أفضل من سلامهم.
رابعاً: أنه حذف المبتدأ من قوله: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات:٢٥] فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم، احتشم من مواجهتهم بلفظ الضيف، أي: ما قال: سلامٌ أنا لا أعرفكم أنتم غريبون عليَّ، وإنما قال سلامٌ وربطها بقوله: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات:٢٥] أي: سلام على قوم لأول مرة أراهم.
خامساً: أنه بنى الفعل للمفعول وحذف فاعله، فقال: {مُنْكَرُونَ} [الذاريات:٢٥] ولم يقل: أنا أنكرتكم، فهناك فرق بين أن تقول: سلام قوم غير معروفين، وهذه ألطف من أن تقول: سلامٌ عليكم قوم أنا لا أعرفكم.
سادساً: أنه راغ إلى أهله لكي يأتي بالطعام، والروغان هو الذهاب في اختفاء.
سابعاً: أنهم ما شعروا به إلا وقد جاءهم بالطعام مع أنه عجل مشوي، وهذا يدل على أنه كان مشغولاً بإكرام الضيف، ما ذهب واشترى وذبح واشتوى فانظر السرعة! {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:٢٦] ولم يقل: ثم جاء، معناها أشياء مجهزة، يأتي إليه الضيف فيجد الطعام جاهز فيقول ابن القيم رحمه الله: يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف، فيشق عليه ويستحي، فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه، ويقول له: مكانكم حتى آتيكم بالطعام، فيقول له: لا.
ليس هناك داعي أن تأتي بالطعام، وبعد ذلك يحلف عليهم.
ثامناً: أنه ذهب إلى أهله، فجاء بالضيافة، فدل على أن ذلك كان معداً.
تاسعاً: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:٢٦] دل على خدمته للضيف بنفسه، ولم يقل: فأمر لهم بعجل سمين، مثل أن يكون عند أحدهم خدم، فمن آداب الضيافة أن يأتي لك بالأكل بنفسه، ولا يقل للخادم: هات الطعام؟ بل يأتي بالطعام بنفسه؛ لأن في هذا زيادة في الإكرام.
عاشراً: أنه جاء بعجل كامل ولم يأت ببعضه.
الحادي عشر: أنه سمين لا هزيل، ومعروف أن ذلك من أفخر أموالهم.
الثاني عشر: أنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه.
الثالث عشر: أنه قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:٢٧] وهذا في غاية التلطف في العرض.
الرابع عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل، لأنه رآهم لا يأكلون.
الخامس عشر: فإنهم لما امتنعوا من الأكل، خاف منهم ولم يظهر لهم، لأن الإنسان إذا لم يمد يده على الطعام فمعنى ذلك أن في نفسه شيئاً، فإبراهيم لم يقل: لماذا لم تأكلوا؟ إذن أنتم تريدون الشر؛ بل سكت، فالله أمرهم أن يقولوا له: لا تخف، نحن ملائكة لا نأكل؛ جئنا لغرض كذا وكذا.
ومسألة استنباط ابن القيم من الآيات مسألة عجيبة؛ حتى أنه قال في كتاب الجواب الكافي: وفي هذه القصة- التي هي قصة يوسف- من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة لعلنا إن وفق الله أن نفردها في مصنف مستقل.