وقال عمر رضي الله عنه في كتابه لـ أبي موسى الأشعري:[ولا يمنعك قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، ولا يبطل الحق شيء، وإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل] ولذلك أقر موسى عليه السلام بخطئه لما ذكره به أعدى أعدائه فرعون لعنه الله، قال فرعون لموسى:{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[الشعراء:١٨ - ١٩] أي: عندما قتلت ذلك القبطي، قال موسى عليه السلام:{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}[الشعراء:٢٠] فاعترف أنه فعلها على ضلالة، ليس كفراناً بنعمة فرعون، ولكن فعلها على ضلال:{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}[الشعراء:٢٠] يعني: قبل أن يوحى إلي وأرسل وأنبأ، فعلتها إذاًَ وأنا من الجاهلين، ولما قال الخضر لموسى عندما تسرع موسى، ولم يفِ بعهده للخضر في الصبر على ما يجري قال الخضر:{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً}[الكهف:٧٢ - ٧٣] فجمع بين الإقرار والاعتذار، وهذا من خلق موسى عليه السلام.
كلنا يفتقر إلى الحق، خلق الإنسان ظلوماً جهولاً، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل فيفتتح صلاته بقوله:(اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة؛ أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) فيجب أن يكون عندنا افتقار إلى الحق، وأن نشعر أننا محتاجون إليه، وأننا لا غنى لنا عن الحق وإلا صرنا في نار جهنم.
وكان الخلفاء الراشدون يلتمسون الحق ويريدون معرفة أخطائهم، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبارته الذهبية:[رحم الله من أهدى إلي عيوبي] وقال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: [يا مزاحم! إن الولاة جعلوا العيون على العوام، وإني جاعلك عيني على نفسي -جعلتك جاسوساً عليَّ- فإن سمعت مني كلمة تربأ بها عني، أو فعلاً لا تحبه، فعظني عنده، وانهني عنه] وقال عمر بن عبد العزيز لـ عمر بن مهاجر: [إذا رأيتني قد ملت عن الحق، فضع يدك في تلبابي، ثم هزني ثم قل: يا عمر ما تصنع؟] وهذا من حرصهم على الحق ومعرفة أخطائهم، والرغبة في تقويمهم، كل واحد يريد أن يقوم، وأن ينبه، وأن يبين له خطؤه حتى لا يستمر على الضلال.
الرغبة في التقويم: إذا لم تكن عند كل واحد منا الرغبة في التقويم؛ فلن يتعلم ولن يتقدم ولن يهتدي، وكلام الأئمة في تواضعهم، كلام أئمة الفقه والعلم معروف مشهور، قال الشافعي رحمه الله: كل مسألة تكلمت فيها بخلاف الكتاب والسنة، فإني راجع عن كلامي في حياتي وبعد مماتي، وكذلك قال مالك رحمه الله، والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن نقبل الحق ولو من الكافر، ولو من اليهودي، عن قتيلة الجهنية قالت:(إن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت) أخرجه الإمام أحمد والنسائي.
إذاً: لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم أي غضاضة من قبول تنبيه اليهودي لأنه حق، وأخذ به، وأمر أصحابه به واعتمده، وهكذا يقبل الحق من أي مكان جاء، ومن أي شخص مهما كان كبيراً أو صغيراً، وعلى هذا جرى الأئمة.