[المجاهدة والصبر على مقاومة الهوى]
وكذلك الذي يمتنع عن الهوى كأنه سيأخذ دواءً مراً، ولا بد أن يصبر على هذا الدواء، ولا بد أن يتبع نظاماً في الحمية من الهوى كما يتبع الرجل الذي يأكل الأكل المضر نظاماً في الحمية، ولذلك قال عبد الملك بن قريب: مررت بأعرابي به رمد شديد في عينيه، ودموعه تسيل على خديه، فقلت: ألا تمسح عينيك؟ قال: نهاني الطبيب عن ذلك، وقال لي: إذا مسحت عينيك، يزداد الألم، ويزداد المرض شدة.
ولا خير فيمن إذا زجر لا ينزجر، وإذا أمر لا يأتمر، فعلاً الآن الذين يصيبهم الرمد هذا مثل حرق العين يريد أن يحك عينه، وقد يكون الطبيب نهاه عن هذا الفعل، وأخبره إن هو حك عينه، أن المرض سينتشر وسيشتد، فماذا يفعل؟ تجد الإنسان قوي الإرادة كأنه قد ربط بحبل يقاوم يده أن تمتد إلى عينه مع أنها تحرقه جداً، لكنه يقاوم أن يمد يده إلى عينه، قد يصيب جلد الإنسان حساسية أو حبوب , فيخبره الطبيب ألا يحك جلده مطلقاً؛ لأنه إذا حكها سينتشر، ماذا يكون شعور الإنسان في تلك الحالة؟ الشخص العاقل يحس بأن هناك دافعاً قوياً لأن يحك جلده، لكنه يصبر على الحك، لأن الحك سيجعل الأمر أسوأ من ذي قبل، كذلك حال الذي يأتيه الهوى، إذا اتبع الهوى سيكون الأمر أسوأ، ولذلك هو يصبر كما يصبر هذا الرجل الذي به رمد شديد وحرقة في عينيه، فلا يحك عينه لأنه أمر بهذا، يقول عبد الملك بن قريب: فقلت لهذا الأعرابي: ألا تشتهي شيئاً؟ قال: بلى، ولكني أحتمي، عندي نظام في الحمية، الطبيب نهاني عن أكلات، يقول الأعرابي: إن أهل النار غلبت شهوتهم حميتهم فهلكوا، الله عز وجل أمرهم أن يمتنعوا عن أشياء، يتبعوا نظام الحمية من أشياء معينة، فغلبت شهوتهم حميتهم فهلكوا.
قال الفضيل بن عياض في كلام على أن اتباع الهوى يحرم العبد من إصابة الحق، ومن معرفة الدليل، ومن التوفيق في أمور الدنيا والآخرة، يقول: من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات، انقطعت عنه موارد التوفيق، فالذي ينغمس في الهوى لا يكاد الله يوفقه إلى خيرٍ أبداً، بل تجد بأن الطرق بينه وبين الخير مسدودة، والعوائق موجودة، لا يستطيع أن يصل إلى الخير؛ لأنه متبع للشهوات والهوى، ما اتخذ الأسباب فكيف يهديه الله؟! {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:٦٩] والذين لم يجاهدوا فينا، ماذا ستكون عاقبتهم؟ وكذلك كان بعضهم يطوف في البيت، فنظر إلى امرأة جميلة، فمشى إلى جانبها، ثم قال:
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بها واللذات والدين
قال: أنا أهوى الدين، لكن اللذات التي أراها تعجبني، فكيف أجمع بين هوى اللذات وبين الدين؟ فقالت المرأة: دع أحدهما تنل الآخر، فعلاً دع الدين تنل الهوى، الإنسان عنده هذه الإرادة: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:١] طريق الخير وطريق الشر، أنت مخير، لا أحد يرغمك على سلوك أحد الطريقين، دع أحدهما تنل الآخر، وهذا ترك الهوى، الآن لحظات تمر على الإنسان يعاين فيها مواقفاً من الشهوات والهوى، فإذا هو قاوم نفسه هذه المقاومة فإن هذه المواقف في الدنيا التي يقاوم فيها الهوى لا تنسى عند الله يوم القيامة مطلقاً، في ذلك الموقف الذي تزل فيه الأقدام، والذي تدنو فيه الشمس من الخلائق، لا ينسى الله تعالى لعبده أبداً هذه المواقف التي وقفها في الدنيا.
أحدهم ترك شهوات وأهواء ولذائذ كثيرة في الدنيا محرمة من أجل الله عز وجل، فلا ينساها الله تعالى له يوم القيامة، وقال عبد الرحمن بن مهدي: رأيت سفيان الثوري رحمه الله تعالى في المنام -بعض المنامات التي ترى للصالحين لا بأس من حكايتها، إذا لم يرد فيها مخالفات شرعية، فبعض المنامات أو الرؤى التي رآها صالحون لأناس صالحين، كان السلف رحمهم الله يدرجونها في كتبهم، ويكتبونها وينشرونها، لأنها تؤثر، الرؤيا الصالحة عاجل بشرى المؤمن- فقال عبد الرحمن بن مهدي وهو من كبار أئمة الدين: رأيت سفيان الثوري رحمه الله تعالى في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى، فحاسبني حساباً يسيراً، ثم أمر بي إلى الجنة، فبينا أنا أدور بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حساً ولا حركةً إذ سمعت قائلاً يقول: سفيان بن سعيد؟ فقلت: سفيان بن سعيد، فقال: تحفظ أنك آثرت الله عز وجل على هواك يوماً؟ فقلت: إي والله، فأخذني النثار من كل جانب -النثار في اللغة: هو ما يرش على العروس في ليلة العرس من الزينة، أو الذهب، أو الزهور، إلى آخر ذلك.
نسأل الله تعالى أن تكون هذه من الرؤى الصالحة التي رئيت لـ سفيان الثوري رحمه الله، فإنه كان من المجاهدين في الله حق جهاده في العلم والتقوى، ونال الإمامة في الدين.
يقول ابن القيم رحمه الله في حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) كيف نالوا هذا الظل؟ يقول: إذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وجدتهم نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى، فإن الإمام المسلط القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه؛ لأن عنده من القوة والنفوذ والسيطرة ما يستطيع به بسهولة أن يتابع هواه، فلما قاوم نفسه وقاوم هواه، وحكم شرع الله تعالى، ولم يتبع شهواته، وعدل بين الرعية كان له الظل يوم أن تدنو الشمس من رءوس العباد.
والشاب المؤثر عبادة الله على داعي الشباب لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك، لولا أن هذا الشاب الذي نشأ في طاعة الله خالف هواه لما نشأ في طاعة الله، والرجل الذي قلبه معلقٌ بالمساجد إنما حمله على ذلك مخالفة هواه الداعي له إلى أماكن اللذات، خالف الهوى الذي يدعوه إلى الذهاب إلى أماكن اللذات، وصار يذهب إلى أماكن العبادة والمساجد، أعقب الله عز وجل له الأجر الجزيل بأن أظله في ظل عرشه.
والمتصدق المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه (هوى الرياء) وهوى أن يشاهده الناس، وأن يتحدثوا عن كرمه لم يقدر على ذلك، لو ما خالف هذا الهوى لما صار في هذا المكان يوم القيامة.
والذي دعته المرأة الشريفة الجميلة، فخاف الله عز وجل وخالف هواه، نال نفس الكرامة.
والذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من خشيته، إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه، فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيلاً عليهم يوم القيامة.