[قصة ابن هبيرة مع أبي محمد الأشيري]
هذا الرجل له مناقب عجيبة، منها: لما تولى الوزارة، مع هذه الولاية التي تولاها، التي كان يمكنه أن يخفض ويرفع بإشارة إصبع، يعاقب، أو يكرم، ونحو ذلك في أمور الدنيا، الرجل كان حسَّاساً، طالباً للعدل، متحرياً لبراءة ذمته.
وقد حصلت له قصص، منها هذه القصة: ذكر مرة في مجلسه مسألة تفرد بها الإمام أحمد عن الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعي، ومالك.
فادَّعى أبو محمد الأشيري المالكي أنها رواية عن مالك، قال: هذا القول الذي تقول: إنه تفرد به أحمد، لم يتفرد به أحمد فقط، وهو رواية عن مالك، ولكن لم يوافق الأشيري على ذلك أحد من العلماء الحاضرين من المالكية وغير المالكية، وأحضر الوزير للإثبات كتب مفردات أحمد التي فيها بيان المسائل التي انفرد بها أحمد عن الأئمة الثلاثة، وهذه المسألة كانت منها، كما قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله.
ولكن الأشيري المالكي أصر على دعواه أن هذه رواية عن مالك.
فصار عند ابن هبيرة -رحمه الله- غضب من هذا الرجل الذي يصر على غير الحق، هذه الكتب، وهذه الإثباتات، وهؤلاء العلماء، وهذا يقول: ليست من مفردات أحمد، فاحتدَّ ابن هبيرة رحمه الله، وقال له: بهيمةٌ أنت؟ أما تسمع هؤلاء الأئمة يشهدون بانفراد أحمد بها، والكتب المصنفة وأنت تنازع؟! وتفرق المجلس.
فلما كان المجلس الثاني، مجلس علم، يحضره الوزير ابن هبيرة رحمه الله ومعه العلماء، واجتمع الخلق للسماع، أخذ ابن شافع في القراءة، فقام ابن هبيرة ومنع الدرس من الابتداء، وقال: قد كان الفقيه أبو محمد جرى في مسألة أمس على ما لا يليق به من العدول عن الأدب والانحراف عن نهج النظر حتى قلت تلك الكلمة -أي: هذا الأشيري المالكي انحرف عن نهج النظر، وفعلاً هو مخطئ، وهذه الإثباتات، لكن يقول: أنا قلت له كلمة عظيمة وهأنذا، فليقل لي كما قلت له أمام الحاضرين جميعاً -الآن القصاص- فلست بخيرٍ منكم، ولا أنا إلا كأحدكم، فضج المجلس بالبكاء -تأثر الناس جداً من هذا الموقف- وارتفعت الأصوات بالدعاء والثناء، وأخذ الأشيري يعتذر، ويقول: أنا المذنب والأولى بالاعتذار من مولانا الوزير.
وهو يقول - ابن هبيرة -: القصاص القصاص يطلب ويصر على القصاص، اقتص مني وقل لي مثلما قلت لك.
فقال يوسف الدمشقي مدرس النظامية: يا مولانا! إذا أبى القصاص، فالفداء، الآن الأشيري يرفض أن يقول لك تلك الكلمة كما قلت له، وهو راضٍ، فنعدل من القصاص إلى الفدية.
فقال الوزير: له حكمه.
فقال الأشيري: نعمك عليَّ كثيرة، فأي حكم بقي لي؟! فقال: قد جعل الله لك الحكم علينا بما ألجأتنا به إلى الاعتداء عليك، فلا بد من تعويض، ما دمت أنك ترفض القصاص.
فقال الأشيري: عليَّ بقية دين منذ كنتُ بـ الشام.
فقال الوزير: يعطى مائة دينار لإبراء ذمته وذمتي، فأُحضر له مائة دينار.
فقال له الوزير: عفا الله عنك وعني، وغفر لك ولي.
وذكر ابن الجوزي أنه قال: يعطى مائة دينار لإبراء ذمته -أي: من الدَّين- ومائة دينار لإبراء ذمتي -من الكلمة التي قلتها له- فأعطاه مائتي دينار.
والأشيري من علماء المالكية، كان قد طلبه الوزير ابن هبيرة، فأينما وجد عالم مجيد عالم جيد يطلبه، ولو كان في آخر الدنيا.
وكان الأشيري عند نور الدين الشهيد محمود بن زنكي رحمه الله، فسمع به الوزير ابن هبيرة، واستقدمه وطلبه من نور الدين، فأعطاه وأرسله إليه وأكرمه، وصار عنده في المجلس وفي المباحثات التي تكون.