للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أبو عبيد وبداية طلبه العلم]

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فإن أخبار الأخيار دواءٌ للقلوب، وجلاءٌ للألباب من الدنس والعيوب، وإن النفس تستروح إلى مطالعة أخبار من تقدم، والمطلع على أخبار من درج، ووقائع من غاب في غابر الموت وما خرج، ومآثر من رقى إلى سماء السيادة وعرج، يعود وكأنه عاصر أولئك وجلس معهم على نمارق الأسرة، واتكأ بينهم على وسائد الأرائك، وأفاد ذلك حزماً وعزماً وموعظةً وعلماً، وهمةً تذهب هماً وبياناً يزيل وهناً ووهماًَ، وعوناً للاقتداء بهم في جميل الخصال ونبيل المآثر والفعال.

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم بعد المماتِ جمال الكتب والسيرِ

هذا شيءٌ من فوائد دراسة أخبار المتقدمين، وشخصيات السلف والعلماء رحمهم الله أجمعين، وهي الإفادة من تلك السير في أمورٍ نقتدي بهم فيها.

ويعلم الإنسان المسلم عظمة التاريخ الإسلامي، وعظمة هذه الأمة التي أنجبت هؤلاء الشخصيات، ويحس وهو يقرأ في أخبارهم أنه يعيش معهم، وربما كان في ذلك جلاءٌ لهمومه، وذهابٌ لأحزانه، وحملاً له على التخلق بأخلاق الكرام، وهذا هو المهم -فعلاً- عند الاطلاع على أخبار العلماء والأئمة المتقدمين.

وسنعرض -إن شاء الله تعالى- لحياة الإمام أبي عبيد القاسم بن سلَّام رحمه الله تعالى عن أخلاقه، وحياته، وعلمه، وفضله، وكلام أهل العلم حوله، وشيءٍ من كتبه وآثاره وأخباره.

عاش الإمام أبو عبيد -رحمه الله تعالى- في العصر العباسي الأول، حيث ولد سنة: (١٥١هـ)، وتوفي سنة: (٢٢٤هـ)، ويكون بهذا قد عاصر سبعةً من خلفاء بني العباس، من المنصور المتوفى سنة: (١٥٨هـ) إلى المعتصم المتوفى سنة: (٢٢٧هـ)، وبذلك يكون قد عاصر المهدي محمد بن عبد الله، والهادي موسى بن محمد، والرشيد هارون بن محمد، الذي حكم ثلاثاً وعشرين سنة، والأمين وَلَد هارون، واسمه محمد بن هارون، وتولى خمس سنين، ويكون أبو عبيد -رحمه الله- قد عاصر -أيضاً- أخا الأمين، المأمون عبد الله بن هارون الذي حكم عشر سنين، وآخر من عاصره من خلفاء بني العباس هو: المعتصم محمد بن هارون، الذي حكم تسع سنين أيضاً.

وهذه الفترة التي سبق أن وصفناها بأنها كانت أيام عز الدولة العباسية وازدهارها، وكانت فيها الحالة الاقتصادية من أحسن ما يكون، حتى أن هارون الرشيد -رحمه الله تعالى- طلب من أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وقاضي الناس في ذلك الوقت أن يؤلف كتاباً في السياسة الاقتصادية للدولة، فألف له كتاب الخراج، لتنظيم بيت مال المسلمين واقتصاد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت.

وفي هذه الحقبة -أيضاً- حصلت فتنة خلق القرآن، ومر بالمسلمين محنة شديدة -جداً- طالت علماء أفذاذاً، فمنهم مَن قُتل، ومنهم مَن أُخذ فحُبس، ومنهم مَن جُلد وضُرب، ومنهم مَن قُطعت عنه النفقة ونحو ذلك من أنواع الأذى، ومنهم مَن مُنع مِن التدريس، ثم تنسموا الرحمة بعدما لبثوا في العذاب المهين خمسة عشر عاماً، وذلك عندما جاء الخليفة المتوكل سنة: [٢٣٢هـ] الذي أعاد السنة ورفع المحنة.

أبو عبيد القاسم بن سلاَّم اسمه: القاسم، وأبوه سلاَّم بن عبد الله، ويُكنى الإمام القاسم بن سلاَّم بـ أبي عبيد، وهو بغدادي، خراساني الأصل، من مدينة هرات، وهي مدينة عظيمة مشهورة من مدن خراسان، وهي المعروفة اليوم في بلاد أفغانستان، وهو تركي مولى الأزد، ومولى الأنصار الخزاعي، والمولى كما سبق أن ذكرنا هو: المعتَق إذا انتسب بنسبك إذا أعتقتَ شخصاً فانتسب إليك، فيقال عنه: فلان الفلاني بنسبتك أنت مولاهم، وأبوه سلاَّم كان عبداً رومياً لرجلٍ من هرات.

ويُحكى أن سلاَّماً خرج يوماً وأبو عبيد في الكُتَّاب، وكان أول ما يبدأ به الصبيان في ذلك الوقت هو حفظ كلام الله تعالى عند الكتاب، فلما سلاَّم مر بالكتَّاب قال للمعلم: "علمي القاسم فإنها كيِّسة" وهذا يدل على أن الرجل صاحب لُكْنة أعجمية لا يحسن العربية؛ فهو يؤنث المذكر، وهذا موجود إلى اليوم، تجد الأعاجم إذا بدءوا في الكلام بالعربية يؤنثون المذكر، ويذكرون المؤنث، فهذا من طبيعة من أراد أن يبدأ يتكلم من الأعاجم العربية أن يقع منه هذا الخلط، ولكن هذا الرجل العامي أكرمه الله تعالى بولدٍ صار من كبار علماء العربية، ومرجعاً في هذا الشأن.

أبو عبيد القاسم بن سلاَّم بمدينة هرات من مملكة خراسان، وكان مولده على الأرجح في سنة: (١٥٧هـ)، وقيل: غير ذلك، وكانت سنة وفاته في: (٢٢٤هـ) على الأصح، وهذا الذي نقله أخص تلاميذه وهو علي بن عبد العزيز البغوي، وبناءً على ذلك يكون قد عُمِّرَ (٧٣) سنة.

وضعه أبوه عند الكتَّاب مع ابن مولاه، ثم لما انتهى من تلقي القرآن عند الكُتَّاب رحل في طلب العلم إلى بغداد، والكوفة، والبصرة، وتنقل في البلدان، وطلب العلم، وسمع الحديث، ودرس الأدب، ونظر في الفقه.

دخل بغداد في سنة: (١٧٦هـ) تقريباً، وسمع فيها من سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، وكذلك سمع من فرج بن فضالة.

ودخل الكوفة في سنة: (١٧٧هـ)، وسمع فيها من شريك بن عبد الله النخعي.

ودخل أبو عبيد البصرة في سنة: (١٧٩هـ) أيضاً وأراد أن يسمع فيها من حماد بن زيد، ولكن لم يدركه، فإنه لما دخل البصرة علم أنه قد توفي رحمه الله تعالى.

حماد بن زيد، شيخ أهل البصرة، مات في نفس السنة، (١٧٩هـ)، فـ أبو عبيد ارتحل إلى البصرة ليسمع من حماد، ففاته ولم يدركه، وتأسف على ذلك أسفاً بالغاً كما سيأتي.

ودخل أيضاً الرقة، وسمع من محدثيها، فيقول أبو عبيد -رحمه الله- عن نفسه: جلست إلى معمر بن سليمان بـ الرقة وكان من خير من رأيت، والرقة: مدينة على الفرات وهي معروفة -الآن- من بلاد سورية، سمع فيها من مُعمَّر بن سليمان، بتشديد الميم، وهذا غير معمر الأزدي - معمر بن راشد اليمني رحمه الله، أو معمر بن راشد الأزدي - الذي سكن في اليمن فترة من حياته.