أيها الإخوة: لما ضرب الله المثل المائي في الجزء الأول من الآية، أعقبه بذكر المثل الناري، والمثل المائي كان في إنزال الماء على الأرض، والمثل الناري في قوله تعالى:{وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ}[الرعد: ١٧] الناس إذا أرادوا أن ينقوا المعادن التي يستخرجونها من الأرض من الشوائب؛ ليحصلوا على هذا الذهب الصافي، أو الفضة الصافية، أو النحاس والحديد الصافي، ماذا تراهم يفعلون؟ إنهم يأخذون هذا الخام من المعادن المختلطة، فيوقدون عليها النار إيقاداً شديداً، حتى تذهب الأخلاط، ويبقى المعدن النافع، فيجعلونه على كيفيات تناسبهم في حياتهم العامة.
هذا هو المثل الثاني عندما تخالط قلوب العباد المحن والفتن، ويكتوي المؤمن بنارها، فإنها تنقيه، وتهذبه من الشوائب، وتجعل معدنه أصيلاً صافياً.
إن في الابتلاءات والمحن والفتن نفعٌ عظيمٌ؛ لإخراج أخلاط الدعة والكسل والركون إلى الحياة الدنيا، والتراجع والجبن إخراج هذه الأخلاط من النفس يحتاج إلى صهرٍ بحرارةٍ عظيمةٍ من حرارات الفتن، والابتلاءات التي تمحص معادن الناس، والتي تزيل الأخلاق والطبائع الرديئة منهم، وتجعل الأخلاق الحسنة والطبائع الجيدة هي التي تبقى كما يبقى معدن الذهب الصافي بعد إيقاد النار تحت الأخلاط التي فيه.
يقول الله تعالى:{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}[الرعد:١٧] هذان المثلان: المثل المائي، والناري ضربا في القرآن للحق والباطل إذا اجتمعا، فإن الله يقول:{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}[الرعد:١٧] يضربها للحق والباطل، يعني: أن الحق والباطل إذا اجتمعا، فإنه لا ثبات للباطل، ولا دوام له أبداً، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء، ولا مع الذهب ونحوه مما يسبك في النار، بل يذهب ويضمحل، فالباطل وإن علا في بعض الأحوال -كما يقول القرطبي رحمه الله- فإنه يضمحل كاضمحلال الذهب والخبث يضمحل ولا يبقى مطلقاً، ولو ظن الناس بأنه طويل العمر والأمد، فإنه لا بد من ذهابه حتى يأذن الله ويشاء، ويخرج الحق عالياً مرفرفاً فوق الأرض، معلناً للناس بأن دين الله موجود، وبأن شرعته باقية، وبأن الطائفة المنصورة موجودة إلى قيام الساعة.