وقال ابن القيم: … وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد: الستر عليه، وعدم تخجيله بين الناس وإقامته مقام الفضيحة وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى وأنه لا شيء له فيزهدون في معاملته ومعاوضته، وهذا قدر زائد من الإحسان إليه بمجرد الصدقة مع تضمنه الإخلاص وعدم المراءاة وطلبهم المحمدة من الناس، وكان إخفاؤها للفقير خيراً من إظهارها بين الناس، ومن هذا مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- صدقة السر وأثنى على فاعلها وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم في ظل عرش الرحمن يوم القيامة ولهذا جعله سبحانه خيرا للمنفق وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته ولا يخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم فإنه بما تعملون خبير.
قال ابن كثير: فيه دلالة على إن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة، من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية.
فالأصل أن الإسرار أفضل، لهذه الآية، ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: … ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).
وجاء في الحديث (صدقة السر تطفئ غضب الرب).
قال القرطبي: قوله تعالى (فَنِعِمَّا هِيَ) ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم على أن الإخفاء خير من ذلك.
ولذلك قال بعض الحكماء: إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا اصطُنع إليك فانشره.
وقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: لا يتمّ المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيلُه وتصغيرُه وسترهُ؛ فإذا أعجلته هنيّته، وإذا صغّرته عظّمته، وإذا سترته أتْمَمْته.
وقال بعض الشعراء فأحسن:
زاد معروفُك عندي عِظَماً … أنه عندك مستورٌ حقِيرْ
تَتَناساه كأَنْ لَمْ تأتِه … وهو عند الناس مشهور خطِيرْ
وقال رحمه الله: ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوّع؛ لأن الإخفاء فيها أفضل من الإظهار، وكذلك سائر العبادات الإخفاءُ أفضل في تطوّعها لانتفاء الرياء عنها.
قال ابن عباس: جعل الله صدقة السر في التطوّع تفضُل علانيتها يقال بسبعين ضِعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سِرِّها يقال بخمسة وعشرين ضِعفاً.
قال: وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.
قلت: مثل هذا لا يقال من جهة الرأي وإنما هو توقيف؛ وفي صحيح مسلم عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال (أفضل صلاة المرء في بيته إِلا المكتوبة) وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عُرضة لذلك وروى النَّسائيّ عن عُقبة بن عامر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال (إن الذي يجهر بالقرآن كالذي يجهر بالصدقة والذي يُسِرّ بالقرآن كالذي يُسِرّ بالصدقة وفي الحديث: صدقة السرّ تُطْفِئ غضب الرب
ويقول العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله - في فوائد الآية السابقة في سورة البقرة - فيها: تفضيل لصدقة السرّ؛ لأنّ فيها إبْقاء على ماءِ وجه الفقير، حيث لم يطّلع عليه غير المعطي.
• وأما الزكاة المفروضة فالأفضل إظهارها.
لأجل أن يقتدي به غيره، ولئلا يُساء الظن به، فيظن بعض الناس أنه لا يخرج زكاة.