القول الثالث: أنه مستحب، والذي ورد النهي عنه هو نذر المجازاة.
ونذر المجازاة هو: أن يعلق فعل الطاعة على وجود النعمة أو دفع النقمة كما لو قال: إن شفى الله مريضي فلله عليّ أن أصوم شهراً، قالوا: هذا هو المنهي عنه، أما ماعدا ذلك كما لو قال: لله عليّ أن أصوم شهراً، فهذا مستحب.
واختار هذا القول النووي.
ويؤيد هذا: آخر الحديث، حيث قال (إنه لا يرد شيئًا) وقال أيضًا (لا يأتي النذر على ابن آدم شيئًا لم أقدره عليه) وقال أيضًا (النذر لا يقدم شيئًا ولا يؤخره) فكل هذه النصوص تدُلّ دلالة واضحة على أن النذر المنهي عنه هو الذي كان في مقابلة حصول شيءَ، أو دفع شيء.
وقد اختار القرطبي في المفهم حيث قال: الذي يظهر لي حمله على التحريم في حقّ من يُخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد، فيكون إقدامه على ذلك محرّمًا، والكراهة في حقّ من لم يعتقد ذلك. انتهى.
قال الحافظ في الفتح: وهو تفصيلٌ حسن، ويؤيّده قصَّة ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر، فإنها في نذر المجازاة. وقد أخرج الطبريّ بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}، قال: كانوا ينذرون طاعة اللَّه من الصلاة والصيام، والزكاة، والحج، والعمرة، وما افترض اللَّه عليهم، فسمّاهم اللَّه أبرارًا. وهذا صريحٌ في أن الثناء وقعَ في غير نذر المجازاة. وقد يُشعر التعبير بالبخيل أن المنهيّ عنه من النذر ما فيه مال، فيكون أخصّ من المجازاة، لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة، كما في الحديث المشهور:"البخيل من ذُكرتُ عنده، فلم يُصلّ عليّ". أخرجه النسائيّ، وصححه ابن حبّان. (الفتح).
والأرجح أنه مكروه مطلقاً.
• ما الحكمة من النهي؟
الحكمة: خشية أن يعتقد بعض الناس أنه يرد القدر، أو يظن أن النذر يوجب حصول غرضه الخاص، أو إنما يحسب أن الله يحقق له غرضه من أجل ذلك النذر، ولهذا قال في الحديث:(إن النذر لا يرد شيئاً) أو (لا يأتي بخير).
وهناك خطر آخر يتمثل في نذر المجازاة كقوله: إن رزقني الله ذكراً، أو إن شفى الله ولدي، أو إن ربحت تجارتي لأتصدق على الفقراء، أو لأنشئن مسجداً أو نحو ذلك، ومعنى ذلك أنه رتب فعل القربة المذكورة من الصدقة أو بناء المسجد على حصول غرضه الشخصي، فإذا لم يحصل غرضه لم يتصدق ولم يبن مسجداً.
وهذا يدل على أن نيته في التقرب إلى الله لم تكن خالصة ولا متمحضة، فحالته في الحقيقة هي حالة البخيل الذي لا يخرج من ماله شيئاً إلا بعوض يزيد على ما غرمه.