[كيف تحقيق الزهد؟]
قال ابن القيم: والذي يصحح هذا الزهد ثلاثة أشياء ثلاثة أشياء:
أحدها: علم العبد أنها ظل زائل، وخيال زائر، وأنها كما قال تعالى (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد .. ).
الثاني: علمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً، وأجل خطراً، وهي دار البقاء.
الثالث: معرفته أن زهده فيها لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقن ذلك وصار له به علم يقين هان عليه الزهد فيها ..
فهذه الأمور الثلاثة تسهل على العبد الزهد فيها وتثبت قدمه في مقامه والله الموفق لمن يشاء. (طريق الهجرتين)
من أقوال السلف:
قال عيسى ابن مريم: من ذا الذي يبني على موج البحار داراً، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً ".
وقال موسى -عليه السلام-: اعبروها ولا تعمروها.
وقال أبو الدرداء لأهل الشام: يا أهل الشام! ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتؤمّلون ما لا تدركون، إن الذين قبلكم بنوا مشيداً وأملوا بعيداً وجمعوا عتيداً، فأصبح أملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً ".
قال عمر بن عبد العزيز: ألا إن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، وشابها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، فالمغرور من اغتر بها.
وقال علي: ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحد منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل.
وقال ابن السماك: إن الموتى لم يبكوا من الموت، ولكنهم يبكون من حسرة الفوات، فاتتهم والله دار لم يتزودوا منها، ودخلوا داراً لم يتزودوا لها.
وقال بعض العلماء: أيها الإنسان إنما أنت نازل من الدنيا في منزل تعمره أيام عمرك، ثم تخليه عند موتك لمن ينزله بعدك ".
قال الشاعر:
إن لله عباداً فطنا … طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا إليها فلما علموا … أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا … صالح الأعمال فيها سفنا
فائدة:
امتثل ابن عمر وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولاً وعملاً.
أما قولاً، فإنه كان يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.
وأما في الفعل: فقد كان -رضي الله عنه- على جانب كبير من الزهد فيها والقناعة منها باليسير الذي يقيم صلبه ويستر بدنه، وما سوى ذلك يقدمه لغده.
قال جابر بن عبد الله: ما رأينا أحداً إلا قد مالت به الدنيا أو مال بها إلا عبد الله بن عمر.
وقالت عائشة: ما رأيت أحداً ألزم للأمر الأول من ابن عمر.