قال الصنعاني: فيه دليل على تحريم الهدية في مقابلة الشفاعة … ولعل المراد إذا كانت الشفاعة في واجب كالشفاعة عند السلطان في إنقاذ المظلوم من يد الظالم، أو كانت في محظور كالشفاعة عنده في تولية ظالم على الرعية، فإنها في الأولى واجبة فأخذ الهدية في مقابلها محرم، والثانية محظورة فقبضها محظور، وأما إذا كانت الشفاعة في أمر مباح فلعله جائز أخذ الهدية لأنها مكافأة على إحسان غير واجب، ويحتمل أنها تحرم لأن الشفاعة شيء يسير لا تؤخذ عليه مكافأة. (سبل السلام)
تنبيه:
ومحل المنع إذا كانت الهدية مقابل الشفاعة وبذل الجاه، أما إذا كانت مقابل جهد وعمل؛ فإنه لا حرج فيها.
• ما الجمع بين حديث الباب، وحديث (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)؟
أولاً: لا يوجد تعارض في القرآن بين آياته، وأيضاً لا يوجد تعارض بين السنة الصحيحة، هذه قاعدة معروفة عند أهل العلم، وإذا قرأت آيتين ظننت أنهما متعارضتان فأعد النظر مرة بعد أخرى، فإن لم تصل إلى نتيجة فاسأل أهل العلم، وكذلك يقال في الحديثين الصحيحين كذلك أنه لا يمكن التعارض بينهما، فإن أشكل عليك شيء فأعد النظر مرة بعد أخرى، فإن لم يظهر لك الجمع فانظر أي الحديثين أقوى؛ لأن الأحاديث الواردة عن الرسول -عليه السلام- ليست كالقرآن، فهي منقولة بخبر الآحاد وبخبر التواتر، وخبر الآحاد من المعلوم أن بعض المخبرين أقوى من البعض، فانظر أيهما أقوى، فإذا كانا سواءً في القوة فاحمل أحدهما على محمل لا يتعارض مع الآخر، فهذا الحديث وهو: هدية من شفع له أن يهدى إلى الشافع يراد بذلك الشفاعة التي يريد بها الإنسان وجه الله عز وجل فإنه لا يقبل؛ لأن ما أريد به الآخرة لا يكون سبباً لنيل الدنيا، ولأن الشافع الذي يشفع يريد بذلك وجه الله إذا أعطي هدية فإن نفسه قد تغلبه في المستقبل فينظر في شفاعته إلى ما في أيدي الناس، فلهذا حذر من قبول الهدية. وأما (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه) فالمراد به ما سوى الشفاعة التي منحت، فيكون هذا عاماً وهذا مخصصاً.
• هل يؤجر على الشفاعة السيئة؟
لا يؤجر بل يأثم.
قال اللَّهِ تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا).
كِفْلٌ: نَصِيبٌ، أي: من الإثم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: الأجر على الشفاعة ليس على العموم بل مخصوص بما تجوز فيه الشفاعة، وهي الشفاعة الحسنة، وضابطها: ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه كما دلت عليه الآية، وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن مجاهد قال: هي في شفاعة الناس بعضهم لبعض، وحاصله: أن من شفع لأحدٍ في الخير كان له نصيب من الأجر، ومن شفع له بالباطل كان له نصيب من الوزر " انتهى.
• ما حكم الشفاعة فيما يقدر عليه الإنسان؟
مستحبة.
بشرط: أن تكون في شيء مباح، فلا تصح الشفاعة في شيء يترتب عليه ضياع حقوق الخلق أو ظلمهم، كما لا تصح الشفاعة في تحصيل أمر محرم، كمن يشفع لأناس قد وجب عليهم الحد أن لا يقام عليهم، قال تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها " أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا " رواه البخاري ومسلم.
ومن الأدلة على استحبابها:
قوله تعالى (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها).
و عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَلَ عَلَى جُلَسَائِهِ فَقَالَ" اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا أَحَب) متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما في قِصَّة برِيرَةَ وزَوْجِها. قال: قال لَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: لَوْ راجَعْتِهِ؟» قَالتَ: يا رَسُولَ اللَّه تأْمُرُنِي؟ قال: «إِنَّما أَشْفعُ» قَالَتْ: لا حاجة لِي فِيهِ. رواه البخاري.