القول الثاني: أنه لا خيار للمجلس، بل يلزم العقد بالإيجاب والقبول.
وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك.
أ- لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).
وجه الدلالة: أن الأمر بالوفاء بالعقد في هذه الآية للوجوب، والعقد يتم بالإيجاب والقبول قبل التفرق أو التخاير، وإذا صدر كذلك وجب الوفاء به، وخيار المجلس ينافي ذلك، إذ مقتضاه إمكان فسخ العقد بعد تمامه من أحد العاقدين، وهو ما ينافي الأمر بالوفاء الوارد في الآية.
ب- ولقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ).
وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى أباح أكل المال عن طريق التجارة، وهذه الإباحة مطلقة عن قيد التفرق عن مكان العقد، ولما كان العقد يتم بالإيجاب والقبول الصادرين عن رضا، كان الأكل مباحا بمجرد العقد، وإذا أجزنا فسخ العقد لأحد العاقدين بخيار المجلس كان من آثاره عدم جواز الأكل، وهو ما يتنافى مع الآية الشريفة.
• بماذا أجاب هؤلاء عن أحاديث من قال بثبوته؟
أولاً: قالوا: إن المراد بالتفرق هنا التفرق بالأقوال، وليس التفرق بالأبدان، كما في قوله تعالى: " وإن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ: وقوله تعالى (ومَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ إلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ)، وقوله -صلى الله عليه وسلم- (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) فالتفرق في هذا كله إنما يكون بالأقوال والاعتقادات، لا بالأبدان، والقياس على النكاح والإجارة والعتق، يؤكد هذا التأويل.
ويجاب عن هذا:
أن هذا خلاف الظاهر، ورواية البيهقي تدل على ذلك (حتى يتفرقا من مكانهما) وكذلك فعل ابن عمر كما سيأتي.
ثانياً: قالوا إنها منسوخة بحديث (المسلمون على شروطهم).
والجواب عن هذا: إن النسخ لا يثبت مع مجرد الاحتمال والتوقيع، ومعلوم أنه إذا أمكن الجمع بين الأدلة فإنه لا يصار معه إلى الترجيح وهنا يمكن الجمع. فيقال أن الشروط المذكورة في الحديث ليست كل الشروط التي يبرمها الناس وهذا محل اتفاق إنما المراد الشروط المباحة وهي التي لا تعارض نصوص الكتاب والسنة.
• ما المراد بالتفرق في قوله (مالم يتفرقا)؟
قال بعض العلماء: المراد بالتفرق، تفرق الأقوال، وهذا ضعيف.
والصحيح أن المراد التفرق بالأبدان.
أ- لرواية البيهقي (حتى يتفرقا من مكانهما).
ب- أن راوي الحديث ابن عمر فسره بذلك، ففي رواية البخاري (وكان ابن عمر إذا اشترى شيئاً يعجبه فارق صاحبه).
ج- أن ذلك خلاف الظاهر.
وقال صاحب المغنى حمل التفرق على الأقوال باطل لوجوه:
أولاً: أن اللفظ لا يحتمل ما قالوه إذ ليس بين المتبايعين تفرق بقول ولا اعتقاد إنما بينهما اتفاق على البيع بعد الاختلاف فيه.
ثانياً: أن هذا يبطل فائدة الحديث إذ قدم علم أنهما بالخيار قبل العقد في انشائه وإتمامه أو تركه.
ثالثاً: أنه يرد تفسير ابن عمر رضي الله عنهما للحديث وكذا أبي برزه وهما راويا الحديث وأعلم بمعناه.