وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ (لَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ وَلَا الْمُخْتَلِسِ قَطْعٌ).
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (لَيْسَ عَلَى الْمُنْتَهِبِ قَطْعٌ) رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْهُمَا ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ.
وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ قَطْعُ السَّارِقِ، وَهَذَا غَيْرُ سَارِقٍ؛ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَاسَ نَوْعٌ مِنْ الْخَطْفِ وَالنَّهْبِ، وَإِنَّمَا يَسْتَخْفِي فِي ابْتِدَاءِ اخْتِلَاسِهِ، بِخِلَافِ السَّارِقِ. (المغني).
• ما الحكمة من عدم قطع هؤلاء؟
قال النووي: قَالَ الْقَاضِي عِيَاض -رضي الله عنه-: صَانَ اللَّه تَعَالَى الْأَمْوَال بِإِيجَابِ الْقَطْع عَلَى السَّارِق، وَلَمْ يُجْعَل ذَلِكَ فِي غَيْر السَّرِقَة كَالِاخْتِلَاسِ وَالِانْتِهَاب وَالْغَصْب؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّرِقَة؛ وَلِأَنَّهُ يُمْكِن اِسْتِرْجَاع هَذَا النَّوْع بِالِاسْتِدْعَاءِ إِلَى وُلَاة الْأُمُور، وَتَسْهُل إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَيْهِ، بِخِلَافِ السَّرِقَة فَإِنَّهُ تَنْدُر إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَيْهَا، فَعَظُمَ أَمْرهَا، وَاشْتَدَّتْ عُقُوبَتهَا لِيَكُونَ أَبْلَغ فِي الزَّجْر عَنْهَا. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَطْع السَّارِق فِي الْجُمْلَة، وَإِنْ اِخْتَلَفُوا فِي فُرُوع مِنْهُ.
وقال ابن القيم: وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم، وترك قطع المختلس والمنتهب والغاصب فمن تمام حكمة الشارع أيضاً؛ فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإنه ينقب الدور، ويهتك الحرز، ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فلو لم يشرع قطعه لسرق النَّاس بعضُهم بعضاً، وعظم الضرر، واشتدت المحنة بالسرَّاق، بخلاف المنتهب والمختلس؛ فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس، فيمكنهم أن يأخذوا على يديه، ويخلِّصوا حقَّ المظلوم، أويشهدوا له عند الحاكم، وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلةٍ من مالكه وغيره، فلا يخلو من نوع تفريطٍ يمكن به المختلس من اختلاسه، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس، فليس كالسارق، بل هو بالخائن أشبه.
وأيضاً: فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالباً، فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك في حال تخلِّيك عنه وغفلتك عن حفظه، وهذا يمكن الاحتراز منه غالباً، فهو كالمنتهب؛ وأما الغاصب فالأمر فيه ظاهر، وهو أولى بعدم القطع من المنتهب، ولكن يسوغ كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال والسجن الطويل والعقوبة بأخذ المال. (إعلام الموقعين).
• هل يقطع من سرق من بيت المال؟
قال ابن قدامة: لا قطع على من سرق من بيت المال إذا كان مسلماً، ويروى ذلك عن عمر وعلي ـ رضي الله عنهما ـ وبه قال الشعبي، والنخعي، والحكم، والشافعي، وأصحاب الرأي.
وقال حماد ومالك وابن المنذر: يقطع، لظاهر الكتاب .... اهـ.
وقد انتصر ابن حزم في المحلى لمذهب مالك في القطع.
والسبب في عدم قطع السارق من المال العام عند الجمهور هو شبهة الملك، والحدود تدرأ بالشبهات، وقد اشترطوا في القطع ألا يكون للسارق في المسروق ملك ولا تأويل الملك أو شبهته.