قال القرطبي: قال العلماء: الحاسد لا يضر إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فيَتْبَع مساوئه ويطلب عَثَراته، قال -صلى الله عليه وسلم-: " إِذا حَسَدت فلا تَبْغِ … " الحديث، والحسد أوّل ذنب عُصِي الله به في السماء، وأول ذنب عُصِي به في الأرض، فحسَدَ إبليس آدَمَ، وحسد قابيلُ هابيل، والحاسد ممقوت مبْغوض مطرود ملعون.
وقال رحمه الله: وأمر نبيُّه -صلى الله عليه وسلم- أن يتعوَّذ من جميع الشرور، فقال: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) وجعل خاتمة ذلك الحسد تنبيهًا على عِظَمه، وكثرة ضرره.
وقيل: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة إلا لَعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جَزَعاً وغماً، ولا ينال في الآخرة إلا حُزْناً واحتراقاً، ولا ينال من الله إلا بعداً ومقتاً .... (الجامع للقرطبي).
[الحسد ثلاث مراتب اذكرها؟]
أحدها: أن يحسد ويقوم بمقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح، فهذا الحسد المذموم.
والثاني: تمني استصحاب عدم النعمة، فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة، بل يحب أن يبقى على حاله من جهله أو فقره أو ضعفه أو شتات قلبه عن الله أو قلة دينه، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص وعيب، فهذا حسد على شيء مقدر، والأول حسد على شيء محقق، وكلاهما حاسد عدو نعمة الله، وعدو عباده، وممقوت عند الله وعند الناس، ولا يسود أبداً، فإن الناس لا يسودون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم، فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسودونه باختيارهم أبداً إلا قهراً.
والثالث: حسد الغبطة، وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه، فهذا لا بأس به ولا يعاب صاحبه، بل هذا قريب من المنافسة (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون).
وفي الصحيح قال -صلى الله عليه وسلم- (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً وسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها، ويعلمها الناس) فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه عليه كبر نفسه، وحب خصال الخير، والتشبه بأهلها، والدخول في جملتهم، فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما.
وقال ابن رجب: ثم ينقسم الناس [أي في الحسد] بعدَ هذا إلى أقسام، فمنهم من يسعى في زوال نعمةِ المحسودِ بالبغي عليه بالقول والفعل، ثمَّ منهم من يسعى في نقلِ ذلك إلى نفسه، ومنهم من يَسعى في إزالته عن المحسودِ فقط من غيرِ نقل إلى نفسه، وهو شرُّهما وأخبثهما، وهذا هو الحسدُ المذمومُ المنهيُّ عنه.
وقسم آخر من الناسِ إذا حسدَ غيره، لم يعمل بمقتضى حسده، ولم يبغِ على المحسود بقولٍ ولا فعلٍ. وقد رُوي عن الحسن أنَّه لا يأثمُ بذلك، وروي مرفوعاً من وجوه ضعيفة، وهذا على نوعين:
أحدهما: أنْ لا يمكنه إزالةُ الحسدِ من نفسِه، فيكون مغلوباً على ذَلِكَ، فلا يأثمُ به.
والثاني: من يُحدِّثُ نفسَه بذلك اختياراً، ويُعيده ويُبديه في نفسه مُستروِحاً إلى تمنِّي زوالِ نعمة أخيه، فهذا شبيهٌ بالعزم المصمِّم على المعصية، وفي العقاب على ذلك اختلافٌ بين العلماء، وربما يُذكر في موضعٍ آخر إنْ شاء الله تعالى، لكن هذا يَبعُدُ أن يَسلَمَ من البغي على المحسود، ولو بالقول، فيأثم بذلك.