وقال رحمه الله: جَمَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالْغِنَى فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ:
مِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَدِيث أَبِي سَعِيدٍ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ). وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ وَرَجُلٌ غَنِيٌّ عَفِيفٌ مُتَصَدِّقٌ).
وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْخَيْلِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ (وَرَجُلٌ ارْتَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا. وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهَ فِي رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ).
وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْهُ (مَنْ طَلَبَ الْمَالَ اسْتِغْنَاءً عَنْ النَّاسِ وَاسْتِعْفَافًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ لَقِيَ اللَّهَ وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ).
وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ (مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ) فَالسَّائِلُ بِلِسَانِهِ وَهُوَ ضِدُّ الْمُتَعَفِّفِ وَالْمُشْرِفُ بِقَلْبِهِ وَهُوَ ضِدُّ الْغِنَى.
وقَالَ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أَيْ عَنْ السُّؤَالِ لِلنَّاسِ.
وَقَالَ (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) فَغِنَى النَّفْسِ الَّذِي لَا يَسْتَشْرِفُ إلَى الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ الْحُرَّ عَبْدٌ مَا طَمِعَ وَالْعَبْدُ حُرٌّ مَا قَنِعَ. وَقَدْ قِيلَ: أَطَعْت مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي. فَكَرِهَ أَنْ يَتَّبِعَ نَفْسَهُ مَا اسْتَشْرَفَتْ لَهُ لِئَلَّا يَبْقَى فِي الْقَلْبِ فَقْرٌ وَطَمَعٌ إلَى الْمَخْلُوقِ؛ فَإِنَّهُ خِلَافَ التَّوَكُّلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَخِلَافَ غِنَى النَّفْسِ.
• هل يلزم الإنسان أن يقبل الزكاة أو غيرها إذا كان محتاجاً لها؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يجب.
لقوله -صلى الله عليه وسلم- لعمر (فخذه .. ) وهذا أمر والأمر للوجوب.
القول الثاني: أنه للاستحباب.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
قال النووي: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ جَاءَهُ مَال هَلْ يَجِب قَبُوله أَمْ يُنْدَب؟ عَلَى ثَلَاثَة مَذَاهِب حَكَاهَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيُّ، وَالصَّحِيح الْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّهُ يُسْتَحَبّ فِي غَيْر عَطِيَّة السُّلْطَان.
قال ابن تيمية: في الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، فِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ثُمَّ قَالَ (يَا حَكِيمُ: إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى. قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَك شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا ثُمَّ إنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ. فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ وَفِي رِوَايَةٍ إنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَى حَكِيمٍ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ لَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-.
فَفِيهِ أَنَّ حَكِيمًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ. وَهَذَا حُجَّةٌ فِي جَوَازِ الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إشْرَافٍ. وَقَوْلُهُ (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى) تَنْبِيهٌ لَهُ عَلَى أَنَّ يَدَ الْآخِذِ سُفْلَى.
وسئل ابن تيمية: عَنْ رَجُلٍ أَعْطَاهُ أَخٌ لَهُ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا أَيَقْبَلُهُ؟ أَمْ يَرُدُّهُ؟
فَأَجَابَ:
قَدْ ثَبَتَ عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرِ (مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك) وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ (أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ مَا أَكْثَرَ مَسْأَلَتِك إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ فَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ فَقَالَ لَهُ حَكِيمٌ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ بَعْدَك مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا). فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُعْطَيَانِهِ فَلَا يَأْخُذُ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا كَانَ سَائِلًا بِلِسَانِهِ، أَوْ مُشْرِفًا إلَى مَا يُعْطَاهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَهُ إلَّا حَيْثُ تُبَاحُ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَالِاسْتِشْرَافُ.
وَأَمَّا إذَا أَتَاهُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ؛ وَلَا إشْرَافٍ فَلَهُ أَخْذُهُ إنْ كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ أَعْطَاهُ حَقَّهُ كَمَا أَعْطَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عُمَرَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ عَمِلَ فَأَعْطَاهُ عِمَالَتَهُ وَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَهُ كَمَا فَعَلَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ قَبِلَهُ وَكَانَ مِنْ غَيْرِ إشْرَافٍ لَهُ عَلَيْهِ فَقَدْ أَحْسَنَ.