قال ابن حجر: وكان السبب في اختصاص أسامة بذلك، ما أخرجه بن سعد من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه. أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأسامة: (لا تشفع في حد وكان إذا شفع شفّعه) بتشديد الفاه أي قبِل شفاعته.
(إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُم) جاء عند النسائي (إنما هلك بنوا إسرائيل) قال ابن دقيق العيد: الظاهر أن هذا الحصر ليس عاماً، فإن بني إسرائيل كان فيهم أموراً كثيرة تقتضي الإهلاك، فيحمل ذلك على حصر مخصوص، وهو الإهلاك بسبب المحاباة في الحدود، فلا ينحصر ذلك في حد السرقة.
• ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: تحريم الشفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان.
قال ابن قدامة رحمه الله: ولا بَأْسَ بِالشَّفَاعَةِ فِي السَّارِقِ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْإِمَامَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: (تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ وَجَب).
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا بَلَغَ الْإِمَامَ، لَمْ تَجُزْ الشَّفَاعَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إسْقَاطُ حَقٍّ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ غَضِبَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ شَفَعَ أُسَامَةُ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، وَقَالَ: (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى)، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي حُكْمِه. (المغني).
وقال النووي: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى تَحْرِيم الشَّفَاعَة فِي الْحَدّ بَعْد بُلُوغه إِلَى الْإِمَام، لِهَذِهِ الْأَحَادِيث، وَعَلَى أَنَّهُ يَحْرُم التَّشْفِيع فِيهِ، فَأَمَّا قَبْل بُلُوغه إِلَى الْإِمَام فَقَدْ أَجَازَ الشَّفَاعَة فِيهِ أَكْثَر الْعُلَمَاء إِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَشْفُوع فِيهِ صَاحِب شَرٍّ وَأَذًى لِلنَّاسِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يُشْفَع فِيهِ. وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا وَوَاجِبهَا التَّعْزِير فَتَجُوز الشَّفَاعَة وَالتَّشْفِيع فِيهَا، سَوَاء بَلَغَتْ الْإِمَام أَمْ لَا؛ لِأَنَّهَا أَهْوَن، ثُمَّ الشَّفَاعَة فِيهَا مُسْتَحَبَّة إِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَشْفُوع فِيهِ صَاحِب أَذًى وَنَحْوه. (نووي).
وقد ترجم البخاري - بباب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان.
ويؤيد هذا ما ورد في بعض روايات هذا الحديث فإنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لأسامة لما تشفع (لا تشفع في حد، فإن الحدود إذا انتهت إلي فليست بمتروكة).
وأخرج أبو داود حديث عمرو بن شعيب عَنْ أَبِيِهِ عن جده يرفعه (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) وصححه الحاكم، ترجم له أبو داود: العفو عن الحد ما لم يبلغ السلطان.
وأخرج أبو داود والحاكم، وصححه من حديث ابن عمر، قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول (من حالت شفاعته دون حد من حدود اللَّه، فقد ضاد اللَّه في أمره).
وأخرج الطبراني عن عروة بن الزبير قَالَ: (لقي الزبير سارقاً فشفع فيه فقيل: حتى يبلغ الإمام، فقال: إذا بلغ الإمام فلعن اللَّه الشافع والمشفع).
فلا يجوز للإمام العفو عن الحد، ولا تجوز الشفاعة فيه إذا وصل الأمر إلى الحاكم.
ويؤيد هذا أيضاً ما أخرجه أحمد والأربعة، وصححه ابن الجارود، والحاكم، عن صفوان بن أمية رصي اللَّه تعالى عنه: أن الْنَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لما أمر بقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه (هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟).