• ما معنى (وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اَللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اَللَّهُ)؟
(وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ) أي: من طلب العفة وتكلفها أعطاه الله إياه، والاستعفاف: هو الكف عن الحرام، والسؤال من الناس
(يُعِفهُ اللهُ) أي: يرزقه الله العفة، قال القرطبي: أي يجازه على استعفافه بصيانه وجهه ورفع قاقته.
(وَمَنْ يَسْتَغْنِ) أي: من يستغن بالله عمن سواه، أو يُظهر الغنى بالاستغناء عن أموال الناس (يُغْنِهِ اللهُ) يرزقه الله غنى القلب.
ففي هذا الحديث دليل على فضل الاستعفاف عن الناس والاستغناء عنهم.
قال السعدي: هذا الحديث اشتمل على أربع جمل جامعة نافعة.
إحداها: قوله (ومن يستعفف يعفه الله).
والثانية: قوله (ومن يستغن يغنه الله).
وهاتان الجملتان متلازمتان، فإن كمال العبد في إخلاصه لله رغبة ورهبة وتعلقاً به دون المخلوقين. فعليه أن يسعى لتحقيق هذا الكمال، ويعمل كل سبب يوصله إلى ذلك، حتى يكون عبداً لله حقاً، حراً من رق المخلوقين، وذلك بأن يجاهد نفسه على أمرين: انصرافها عن التعلق بالمخلوقين بالاستعفاف عما في أيديهم، فلا يطلبه بمقاله ولا بلسان حاله، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- لعمر (ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك) فقطع الإشراف في القلب والسؤال باللسان، تعففاً وترفعاً عن منن الخلق، وعن تعلق القلب بهم، سبب قوي لحصول العفة.
وتمام ذلك: أن يجاهد نفسه على الأمر الثاني: وهو الاستغناء بالله والثقة بكفايته، فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه، وهذا هو المقصود، والأول وسيلة إلى هذا، فإن من استعف عما في أيدي الناس وعما يناله منهم، أوجب له ذلك أن يقوى تعلقه بالله، ورجاؤه وطمعه في فضل الله وإحسانه، ويحسن ظنه وثقته بربه، والله تعالى عند حسن ظن عبده به، إن ظن خيراً فله، وإن ظن غيره فله، وكل واحد من الأمرين يمد الآخر فيقويه، فكلما قوي تعلقه بالله ضعف تعلقه بالمخلوقين وبالعكس.
ومن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- (اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى) فجمع الخير كله في هذا الدعاء، فالهدى: هو العلم النافع، والتقى: هو العمل الصالح، وترك المحرمات كلها، هذا صلاح الدين.
وتمام ذلك بصلاح القلب، وطمأنينته بالعفاف عن الخلق، والغنى بالله، ومن كان غنياً بالله فهو الغني حقاً، وإن قلت حواصله، فليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى القلب، وبالعفاف والغنى يتم للعبد الحياة الطيبة، والنعيم الدنيوي، والقناعة بما آتاه الله.
وقال ابن تيمية: سبحانه أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه.
وقال ابن القيم: يستعين الإنسان على التجرد من الطمع والفزع؟ بالتوحيد والتوكل والثقة بالله، وعلمك بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، وأن الأمر كله لله، ليس لأحد مع الله شيء
وقال ابن رجب رحمه الله: وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم، فمن سأل الناس ما بأيديهم، كرهوه وأبغضوه، لأن المال محبوب لنفوس بني آدم، فمن طلب منهم ما يحبونه، كرهوه لذلك.