ومع ذلك، فإن العلماء - من المتقدمين والمتأخرين - يستدلون بهذه الآية أيضاً على النهي عن قتل النفس وإيذائها وإلقائها إلى التهلكة بأي طريقة من طرق التهلكة، آخذين بعموم لفظ الآية، وبالقياس
الجلي، مقررين بذلك القاعدة الأصولية القائلة (العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وأما قصرها عليه - يعني قصر الآية على موضوع ترك النفقة في سبيل الله - ففيه نظر، لأن العبرة بعموم اللفظ.
وقال الشوكاني: أي: لا تأخذوا فيما يهلككم، وللسلف في معنى الآية أقوال. والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا، وبه قال ابن جرير الطبري.
ويدل على ذلك أيضاً تنوع تفسيرات السلف لهذه الآية، فقد ورد عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أنه اعتبر من يذنب الذنب ثم ييأس من رحمة الله: أنه ألقى بيده إلى التهلكة، قال ابن حجر: أخرجه ابن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح.
ورجح ابن حجر الأول فقال: والأول أظهر لتصدير الآية بذكر النفقة فهو المعتمد في نزولها وأما قصرها عليه ففيه نظر لأن العبرة بعموم اللفظ.
• ما حكم حمْل الرجل نفسه على العدو؟
قال ابن حجر: وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يجرئ المسلمين عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن، ومتى كان مجرد تهور فممنوع ولا سيما إن ترتب على ذلك وهن في المسلمين.
وروى بن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح عن مدرك بن عوف قال (إني لعند عمر فقلت: إن لي جاراً رمى بنفسه في الحرب فقتل، فقال ناس ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر: كذبوا لكنه اشترى الآخرة بالدنيا. (فتح الباري).
وقال النووي - بعد ذكر قصة صاحب التمرات - فِيهِ: جَوَاز الِانْغِمَار فِي الْكُفَّار، وَالتَّعَرُّض لِلشَّهَادَةِ، وَهُوَ جَائِز بِلَا كَرَاهَة عِنْد جَمَاهِير الْعُلَمَاء.
وقال القرطبي: وقال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين. فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه. وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) الآية، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه. (تفسير القرطبي).
وقال ابن تيمية: وأما قوله: أريد أن أقتل نفسي في الله فهذا كلام مجمل؛ فإنه إذا فعل ما أمره الله به فأفضي ذلك إلى قتل نفسه فهذا محسن في ذلك، مثل من يحمل على الصف وحده حملاً فيه منفعة للمسلمين، وقد اعتقد أنه يقتل فهذا حسن … ومثل ما كان بعض الصحابة ينغمس في العدو بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد روى الخلال بإسناده عن عمر بن الخطاب أن رجلاً حمل على العدو وحده فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة فقال عمر لا و لكنه ممن قال الله فيه (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَاد).