للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

• كيف السبيل إلى التعلق بالله والتعفف عن الناس؟

أولاً: بالصبر ومجاهدة النفس.

لحديث الباب (ومن يستعفف يعفَّه الله، ومن يستغن يغنِه الله، ومن يصبر يُصَبِّرْه الله، وما أعطي أحدٌ من عطاءٍ خيرٌ وأوسعُ من الصبر).

ثانياً: بالدعاء.

فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) رواه مسلم.

قال ابن تيمية: وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه له، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميرا لهم مدبرا لهم متصرفا بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيرا لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها. وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لا سيما إذا دَرَت بفقره إليها وعشقه لها وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه بل أعظم؛ فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص. وأما إذا كان القلب -الذي هو الملك- رقيقا مستعبدا متيما لغير الله فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية لما استعبد القلب. وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحق إذا أدى حق الله وحق مواليه له أجران، ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك، وأما من استعبد قلبه فصار عبداً لغير الله فهذا يضره ذلك ولو كان في الظاهر ملك الناس، فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس.

وقال ابن القيم: أعظم الناس خذلاناً من تعلق بغير الله، فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات، ومثل المتعلق بغير الله كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت أوهن البيوت.

وقال: الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه، فإنه لو عرف ربه لما شكاه، ولو عرف الناس لما شكا إليهم. ورأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقته وضرورته، فقال: يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك، وفي ذلك قيل:

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم.

وقال أيوب السَّختياني: لا يَنْبُلُ الرجلُ حتى تكونَ فيه خصلتان: العفَّةُ عمَّا في أيدي الناس، والتجاوزُ عمّا يكون منهم.

وقال أعرابيٌّ لأهل البصرة: من سيِّدُ أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن. قال: بما سادهم؟ قالوا: احتاجَ الناسُ إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>