للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

٦٤٦ - وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ; (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُعْطِي عُمَرَ اَلْعَطَاءَ، فَيَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ مِنِّي، فَيَقُولُ: "خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ، أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا اَلْمَالِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(أَعْطِهِ أَفْقَرَ مِنِّي) أي: شخصاً أحوج إليه مني.

(خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ) أي: اتخذه مالاً لك وإن لم تكن في حاجة إلى إنفاقه.

(وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ) الإشراف التعرض للشيء والحرص عليه، من قولهم: أشرف على كذا إذا تطاول له، قال أبو داود: وسألت أحمد عن إشراف النفس فقال: بالقلب.

قال القرطبي: إشراف النفس: تطلعها وتشوّفها، وشَرهُهَا لأخذ المال.

(وَلَا سَائِلٍ) أي بلسانك.

(وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ) أي: وما لم يؤتك الله بالشرط المذكور، فلا تجعل نفسك تابعة له ناظرة إليه.

• ما المراد بهذا العطاء الذي يعطيه النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر؟

المراد به: العمالة على الصدقة كما جاء الرواية الأخرى (قال عمر: فإني عملت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعمّلني، فقلت مثل قولك فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا أُعْطيتَ شيئاً من غير أن تسأل فكل، وتصدق).

• ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: ذم السؤال والتطلع إلى ما في أيدي الناس.

وقد تقدم ما يتعلق بهذه المسألة كاملة في شرح حديث (ومن يستعفف يعفه الله).

قال شيخ الإسلام: فَالْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِزْقٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ فَإِذَا طَلَبَ رِزْقَهُ مِنْ اللَّهِ صَارَ عَبْدًا لِلَّهِ فَقِيرًا إلَيْهِ، وَإِنْ طَلَبَهُ مِنْ مَخْلُوقٍ صَارَ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فَقِيرًا إلَيْهِ.

وَلِهَذَا كَانَتْ " مَسْأَلَةُ الْمَخْلُوقِ " مُحَرَّمَةً فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ وَفِي النَّهْيِ عَنْهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ كَقَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم- (لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِزْعَةُ لَحْمٍ).

وَقَوْلِهِ (مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ).

وَقَوْلِهِ (لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ دَمْعٍ مُوجِعٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ) هَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحِ. وَفِيهِ أَيْضًا (لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَذْهَبَ فَيَحْتَطِبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ) وَقَالَ (مَا أَتَاكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ. وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ} فَكَرِهَ أَخْذَهُ مِنْ سُؤَالِ اللِّسَانِ وَاسْتِشْرَافِ الْقَلْب.

وقال رحمه الله: وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (مَا أَتَاكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ).

فَالْمُشْرِفُ الَّذِي يَسْتَشْرِفُ بِقَلْبِهِ وَالسَّائِلُ الَّذِي يَسْأَلُ بِلِسَانِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري (قَالَ: أَصَابَتْنَا فَاقَةٌ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِأَسْأَلَهُ فَوَجَدْتُهُ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ وَاَللَّهِ مَهْمَا يَكُنْ عِنْدَنَا مَنْ خَيْرٍ فَلَنْ نَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ).

وَ (الِاسْتِغْنَاءُ) أَنْ لَا يَرْجُوَ بِقَلْبِهِ أَحَدًا فَيَتَشَرَّفَ إلَيْهِ.

وَ (الِاسْتِعْفَافُ) أَلَّا يَسْأَلَ بِلِسَانِهِ أَحَدًا.

وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ التَّوَكُّلِ فَقَالَ: قَطْعُ الِاسْتِشْرَافِ إلَى الْخَلْقِ؛ أَيْ لَا يَكُونُ فِي قَلْبِكَ أَنَّ أَحَدًا يَأْتِيكَ بِشَيْءِ، فَهَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَبْدَ فِي طَلَبِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ لَا يُوَجِّهُ قَلْبَهُ إلَّا إلَى اللَّهِ؛ فَلِهَذَا قَالَ الْمَكْرُوبُ: (لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ). وَمِثْلُ هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- (كَانَ يَقُولُ: عِنْدَ الْكَرْبِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ) فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِيهَا تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وَتَأَلُّهُ الْعَبْدِ رَبَّهُ وَتَعَلُّقُ رَجَائِهِ بِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَه، وَهِيَ لَفْظُ خَبَرٍ يَتَضَمَّنُ الطَّلَبَ.

وَالنَّاسُ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَوْلُ الْعَبْدِ لَهَا مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ لَهُ حَقِيقَةٌ أُخْرَى وَبِحَسَبِ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ تَكْمُلُ طَاعَةُ اللَّهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>