وعن أُمِّ سَلَمةَ أَنْ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قال (إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض، فأَقْضِي لَهُ بِنحْو ما أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) متفق عليه. «أَلْحَنَ» أَيْ: أَعْلَم.
وعن أَبي قَتَادَةَ الْحارثِ بنِ ربعي -رضي الله عنه- عن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَّهُ قَام فِيهمْ، فذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهادَ فِي سبِيلِ اللَّه، وَالإِيمانَ بِاللَّه أَفْضلُ الأَعْمالِ، فَقَامَ رَجلٌ فقال: يا رسول اللَّه أَرَأَيْت إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّه، تُكَفِّرُ عنِي خَطَايَايَ؟ فقال لَهُ رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: نعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّه وأَنْتَ صَابر مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غيْرَ مُدْبرٍ، ثُمَّ قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: كيْف قُلْتَ؟ قال: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيل اللَّه، أَتُكَفرُ عني خَطَاياي؟ فقال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: نَعمْ وأَنْت صابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقبِلٌ غَيْرَ مُدْبِرٍ، إِلاَّ الدَّيْن فَإِنَّ جِبْرِيلَ قال لِي ذلِكَ). رواه مسلم.
فحقوق العباد يجب أن يتحلل منها في الدنيا قبل أن يحاسب عليها في الآخرة.
وحقوق العباد تنقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن تكون في النفس.
مثل أن يكون قد جنى عليه، أو ضربه حتى جرحه، أو قطع عضواً من أعضائه، فإنه يتحلل منه بأن يُمكّن صاحب الحق من القصاص، أو بذل الدية إذا لم يكن القصاص.
القسم الثاني: أن تكون في المال.
فإنه يعطيه ماله ويرجع لصاحبه، فإن كان صاحبه قد مات فإنه يسلمه إلى ورثته، فإن لم يعرف مكانه فإنه يتصدق به عنه.
القسم الثالث: وإن كانت المظلمة في العرض كسب أو شتم.
فاختلف العلماء في كيفية التحلل منه على قولين:
القول الأول: اشتراط الإعلام والتحلل.
واحتج أصحاب هذا القول: بأن الذنب حق آدمي، فلا يسقط إلا بإحلاله منه وإبرائه.
القول الثاني: إنه لا يشترط الإعلام بما نال من عِرضه وقذفه واغتيابه، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة، فيبدِّل غيبته بمدحه والثناء عليه.
وهذا اختيار أبي العباس ابن تيمية.
واحتج أصحاب هذه المقالة: بأن إعلامه مفسدة محضة، لا تتضمن مصلحة، فإنه لا يزيده إلا أذى وخنقاً وغماً، وقد كان مستريحاً قبل سماعه.
قالوا: وربما كان إعلامه به سبباً للعداوة والحرب بينه وبين القائل.
وقالوا: إن الفرق بين ذلك وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين:
أحدهما: أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه، فلا يجوز إخفاؤها عنه، فإنه محض حقه، فيجب عليه أداؤه إليه، بخلاف الغيبة والقذف، فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه.
الثاني: أنه إذا أعلمه بها لم تؤذه، ولم تهج منه غضباً ولا عداوة، بل ربما سرّه ذلك وفرح به.
وهذا القول الثاني هو الراجح والله أعلم بالصواب.