للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ولقوله (فقد حل لهم أن يفقؤا عينه) ومقتضى الحل أنه لا يضمن ولا يقتص منه.

ولقوله (ما كان عليك من جناح) وإيجاب القصاص أو الدية جناح.

ولأن قوله -صلى الله عليه وسلم- المذكور لو أعلم إنك تنظر طعنت به في عينك يدل على الجواز.

وقد ذهب إلى مقتضى هذه الأحاديث جماعة من العلماء منهم الشافعي.

وقال ابن القيم: ثَبَتَ فِي "الصّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ النّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ (لَوْ أَنّ امْرَأً اطّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنٍ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةِ فَفَقَأَتْ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ) وَفِي لَفْظٍ فِيهِمَا (مَنْ اطّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاص) وَفِيهِمَا: (أَنّ رَجُلًا اطّلَعَ مِنْ جُحْرٍ فِي بَعْضِ حُجَرِ النّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَامَ إلَيْهِ بِمِشْقَصٍ وَجَعَلَ يَخْتِلُهُ لِيَطْعَنَهُ) فَذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ بِهَذِهِ الْحُكُومَةِ وَإِلَى الّتِي قَبْلَهَا فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالشّافِعِيّ وَلَمْ يَقُلْ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ.

وقال ابن القيم رحمه الله - لما ذكر حديث الباب - فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ بِأَنَّهَا خِلَافُ الْأُصُولِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَبَاحَ قَلْعَ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ، لَا بِجِنَايَةِ النَّظَرِ، وَلِهَذَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ لَمْ يُقْطَعْ، وَلَوْ اسْتَمَعَ عَلَيْهِ بِإِذْنِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْطَعَ أُذُنَهُ، فَيُقَالُ: بَلْ هَذِهِ السُّنَنُ مِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ؛ فَمَا خَالَفَهُمَا فَهُوَ خِلَافُ الْأُصُولِ، وَقَوْلُكُمْ: " إنَّمَا شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْذَ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ " فَهَذَا حَقٌّ فِي الْقِصَاصِ، وَأَمَّا الْعُضْوُ الْجَانِي الْمُتَعَدِّي الَّذِي لَا يُمْكِنُ دَفْعُ ضَرَرِهِ وَعُدْوَانِهِ إلَّا بِرَمْيِهِ، فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تَتَنَاوَلُهُ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا، وَالسُّنَّةُ جَاءَتْ بِبَيَانِ حُكْمِهِ بَيَانًا ابْتِدَائِيًّا لِمَا سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ، لَا مُخَالِفًا لِمَا حَكَمَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهَذَا اسْمٌ آخَرُ غَيْرُ فَقْءِ الْعَيْنِ قِصَاصًا، وَغَيْرُ دَفْعِ الصَّائِلِ الَّذِي يُدْفَعُ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ؛ إذْ الْمَقْصُودُ دَفْعُ ضَرَرِ صِيَالِهِ، فَإِذَا انْدَفَعَ بِالْعَصَا لَمْ يُدْفَعْ بِالسَّيْفِ.

وَأَمَّا هَذَا الْمُتَعَدِّي بِالنَّظَرِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِفَاءِ وَالْخَتْلِ؛ فَهُوَ قِسْمٌ آخَرُ غَيْرُ الْجَانِي وَغَيْرُ الصَّائِلِ الَّذِي لَمْ يَتَحَقَّقْ عُدْوَانُهُ، وَلَا يَقَعُ هَذَا غَالِبًا إلَّا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِفَاءِ وَعَدَمِ مُشَاهَدَةِ غَيْرِ النَّاظِرِ إلَيْهِ؛ فَلَوْ كُلِّفَ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى جِنَايَتِهِ لَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَمَرَ بِدَفْعِهِ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ ذَهَبَتْ جِنَايَةُ عُدْوَانِهِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَإِلَى حَرِيمِهِ هَدَرًا، وَالشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ تَأْبَى هَذَا وَهَذَا؛ فَكَانَ أَحْسَنَ مَا يُمْكِنُ وَأَصْلَحَهُ وَأَكَفَّهُ لَنَا وَلِلْجَانِي مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا وَلَا دَافِعَ لِصِحَّتِهَا مِنْ حَذْفِ مَا هُنَالِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ بَصَرٌ عَادَ لَمْ يَضُرَّ خَذْفُ الْحَصَاةِ، وَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ بَصَرٌ عَادَ لَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ؛ فَهُوَ الَّذِي عَرَّضَهُ صَاحِبُهُ لِلتَّلَفِ، فَأَدْنَاهُ إلَى الْهَلَاكِ، وَالْخَاذِفُ لَيْسَ بِظَالِمٍ لَهُ، وَالنَّاظِرُ خَائِنٌ ظَالِمٌ، وَالشَّرِيعَةُ أَكْمَلُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تُضَيِّعَ حَقَّ هَذَا الَّذِي قَدْ هُتِكَتْ حُرْمَتُهُ وَتُحِيلَهُ فِي الِانْتِصَارِ عَلَى التَّعْزِيرِ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ فَحُكْمُ اللَّهِ فِيهِ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). (إعلام الموقعين).

<<  <  ج: ص:  >  >>