للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ثالثاً: لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك.

عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم- (يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) متفق عليه.

قال -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن سمرة (لا تسأل الإمارة) متفق عليه.

وقال -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن بين اثنين) رواه مسلم.

عن مسألة: أي سؤال.

قوله (وكلت إليها) بضم الواو وكسر الكاف مخففا ومشددا وسكون اللام، ومعنى المخفف أي صرف إليها ومن وكل إلى نفسه هلك، ومنه في الدعاء " ولا تكلني إلى نفسي " ووكل أمره إلى فلان صرفه إليه; ووكله بالتشديد استحفظه، ومعنى الحديث أن من طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته عليها من أجل حرصه.

وقال النووي رحمه الله: (لَا تَسَألِ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا):

فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ:

مِنْهَا: كَرَاهَةُ سُؤَالِ الْوِلَايَةِ، سَوَاءٌ وِلَايَةُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْحِسْبَةِ وَغَيْرِهَا.

وَمِنْهَا: بَيَانُ أَنَّ مَنْ سَأَلَ الْوِلَايَةَ لَا يَكُونُ مَعَهُ إِعَانَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَكُونُ فيه كفاية لذلك العمل؛ فينبغي أن لا يُوَلَّى؛ وَلِهَذَا قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا نُوَلِّي عَمَلَنَا مَنْ طَلَبَهُ أَوْ حَرَصَ عَلَيْهِ). ا. هـ

وقال -أيضًا- رحمه الله: (قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ لَا يُوَلَّى مَنْ سَأَلَ الْوِلَايَةَ، أَنَّهُ يُوكَلُ إِلَيْهَا، وَلَا تَكُونُ مَعَهُ إِعَانَةٌ؛ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ السَّابِقِ؛ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ إِعَانَةٌ لَمْ يَكُنْ كُفْئًا وَلَا يُوَلَّى غَيْرُ الْكُفْءِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ تُهْمَةً لِلطَّالِبِ وَالْحَرِيصِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

وأما الجمع بين تلك الأحاديث التي فيها النهي عن طلب الإمارة، وبين قول يوسف عليه السلام: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ([يوسف: ٥٥].

فقد قال القرطبي رحمه الله: (وَدَلَّتِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ أَنْ يَخْطُبَ الْإِنْسَانُ عَمَلًا يَكُونُ لَهُ أَهْلًا، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ … [وذكر الأحاديث السالفة الذكر].

فَالْجَوَابُ:

أَوَّلًا: أَنَّ يُوسُفَ -عليه السلام- إِنَّمَا طَلَبَ الْوِلَايَةَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْعَدْلِ وَالْإِصْلَاحِ وَتَوْصِيلِ الْفُقَرَاءِ إِلَى حُقُوقِهِمْ، فَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ الْيَوْمَ؛ لَوْ عَلِمَ إِنْسَانٌ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَقُومُ بِالْحَقِّ فِي الْقَضَاءِ أَوِ الْحِسْبَةِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ لَتَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَوَجَبَ أَنْ يَتَوَلَّاهَا وَيَسْأَلُ ذَلِكَ، وَيُخْبِرُ بِصِفَاتِهِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْكِفَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ يُوسُفُ -عليه السلام-. فَأَمَّا لَوْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَيَصْلُحُ لَهَا وَعَلِمَ بِذَلِكَ، فَالْأَوْلَى أَلَّا يَطْلُبَ؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: «لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ».

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ فِي سُؤَالِهَا وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا مَعَ العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها، دليل عَلَى أَنَّهُ يَطْلُبُهَا لِنَفْسِهِ وَلِأَغْرَاضِهِ؛ وَمَنْ كَانَ هَكَذَا يُوشِكُ أَنْ تَغْلِبَ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَيَهْلِكُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم-: «وُكِلَ إِلَيْهَا» وَمَنْ أَبَاهَا لِعِلْمِهِ بِآفَاتِهَا، وَلِخَوْفِهِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حُقُوقِهَا فَرَّ مِنْهَا، ثُمَّ إِنِ ابْتُلِيَ بِهَا فَيُرْجَى لَهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «أُعِينَ عَلَيْهَا».

<<  <  ج: ص:  >  >>