والقرآن مملوء من التزهيد في الدنيا والإخبار بخستها وقلتها وانقطاعها وسرعة فنائها، والترغيب في الآخرة، والإخبار بشرفها ودوامها فإذا أراد الله بعبد خيرا أقام في قلبه شاهداً يعاين به حقيقة الدنيا والآخرة ويؤثر منهما ما هو أولى بالإيثار
وقال ابن رجب: فأمَّا الزُّهد في الدُّنيا، فقد كثُر في القُرآن الإشارة إلى مدحه، وإلى ذمّ الرغبة في الدُّنيا.
قال تعالى (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى).
وقال تعالى (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنيا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ).
وقال تعالى في قصة قارون (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ) إلى قوله (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
وقال تعالى (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنيا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنيا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ).
وقال (قُلْ مَتَاعُ الدُّنيا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً).
وقال حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنَّه قال لقومه (يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنيا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ).
وقد ذمَّ الله مَنْ كان يُريد الدُّنيا بعمله وسعيه ونيَّته.
وقال رحمه الله: وهذا الحديث أصلٌ في قِصَر الأمل في الدنيا، وأنَّ المؤمنَ لا ينبغي له أن يتَّخذ الدُّنيا وطناً ومسكناً، فيطمئنّ فيها، ولكن ينبغي أنْ يكونَ فيها كأنَّه على جناح سفر: يُهَيِّئُ جهازَه للرحيل.
وقد اتَّفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال تعالى حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنّه قال (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ).
وكان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقول (مالي ولِلدُّنيا إنَّما مَثَلي ومَثَلُ الدُّنيا كمثل راكبٍ قالَ في ظلِّ شجرةٍ ثم راحَ وتركها).
ومن وصايا المسيح -عليه السلام- لأصحابه أنَّه قال لهم: اعبُروها ولا تَعمُرُوها.
ورُوي عنه أنَّه قال: من ذا الذي يبني على موجِ البحر داراً، تلكُمُ الدُّنيا، فلا تتَّخذوها قراراً.
ودخل رجلٌ على أبي ذرٍّ، فجعل يُقلِّب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذرٍّ، أين متاعُكم؟ قالَ: إنَّ لنا بيتاً نوجه إليه، قالَ: إنَّه لابدَّ لك من مَتاع مادمت هاهنا، قالَ: إنَّ صاحب المنْزل لا يدعُنا فيه.
ودخلوا على بعض الصالحين، فقلبوا بصرهم في بيته، فقالوا له: إنَّا نرى بيتَك بيتَ رجلٍ مرتحلٍ، فقال: أمرتحلٌ؟ لا، ولكن أُطْرَدُ طرداً.
وكان عليُّ بنُ أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: إنَّ الدُّنيا قدِ ارتحلت مدبرةً، وإنَّ الآخرة قدِ ارتحلت مقبلةً، ولكُلٍّ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل.