وَلِأَنَّ فِيهِ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ، وَنُصْرَةَ الْمَظْلُومِ، وَأَدَاءَ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ، وَرَدًّا لِلظَّالِمِ عَنْ ظُلْمِهِ، وَإِصْلَاحًا بَيْنَ النَّاسِ، وَتَخْلِيصًا لَبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْقُرَبِ.
وَلِذَلِكَ تَوَلَّاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ، فَكَانُوا يَحْكُمُونَ لِأُمَمِهِمْ، وَبَعَثَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا، وَبَعَثَ أَيْضًا مُعَاذًا قَاضِيًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أَجْلِسَ قَاضِيًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَة. (المغني)
وجاء في (الموسوعة الفقهية) وَلِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ وَعَظِيمِ فَضْلِهِ جَعَل اللَّهُ فِيهِ أَجْرًا مَعَ الْخَطَأِ، وَأَسْقَطَ عَنْهُ حُكْمَ الْخَطَأِ، قَال رَسُول اللَّهِ -رضي الله عنه- (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنَّمَا أُجِرَ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَبَذْل وُسْعِهِ لَا عَلَى خَطَئِهِ).
وفيه الإثم العظيم لمن لم يقُم به: لمن جار وظلم، أو حكم بغير علم.
لحديث الباب (اَلْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اِثْنَانِ فِي اَلنَّارِ … وَرَجُلٌ عَرَفَ اَلْحَقَّ، فَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَجَارَ فِي اَلْحُكْمِ، فَهُوَ فِي اَلنَّارِ. وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ اَلْحَقَّ، فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي اَلنَّار).
وحديث (مَنْ وَلِيَ اَلْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ).
وجاء في (الموسوعة الفقهية) كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يُحْجِمُ عَنْ تَوَلِّي الْقَضَاءِ وَيَمْتَنِعُ عَنْهُ أَشَدَّ الاِمْتِنَاعِ حَتَّى لَوْ أُوذِيَ فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ خَشْيَةً مِنْ عَظِيمِ خَطَرِهِ كَمَا تَدُل عَلَيْهِ الأْحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ وَالَّتِي وَرَدَ فِيهَا الْوَعِيدُ وَالتَّخْوِيفُ لِمَنْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ وَلَمْ يُؤَدِّ الْحَقَّ فِيهِ، كَحَدِيثِ (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ) وَحَدِيثُ (مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ أَوْ جُعِل قَاضِيًا فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ) وَحَدِيثُ (الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ).
وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُل مَا جَاءَ مِنَ الأْحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَخْوِيفٌ وَوَعِيدٌ إِنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ قُضَاةِ الْجَوْرِ وَالْجُهَّال الَّذِينَ يُدْخِلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
فَالأْحَادِيثُ السَّابِقَةُ بِجُمْلَتِهَا، بَعْضُهَا مُرَغِّبٌ وَبَعْضُهَا مُرَهِّبٌ.
وَالْمُرَغِّبُ مِنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى الصَّالِحِ لِلْقَضَاءِ الْمُطِيقِ لِحَمْل عِبْئِهِ، وَالْقِيَامِ بِوَاجِبِهِ، وَالْمُرَهِّبُ مِنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل دُخُول مَنْ دَخَل فِيهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَامْتِنَاعُ مَنِ امْتَنَعَ عَنْهُ، فَقَدْ تَقَلَّدَهُ بَعْدَ الْمُصْطَفَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، سَادَاتُ الإْسْلَامِ وَقَضَوْا بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وَدُخُولُهُمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عُلُوِّ قَدْرِهِ، وَوُفُورِ أَجْرِهِ، فَإِنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ، وَوَلِيَهُ بَعْدَهُمْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ.
وَمَنْ كَرِهَ الدُّخُول فِيهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعَ فَضْلِهِمْ وَصَلَاحِيَّتِهِمْ وَوَرَعِهِمْ مَحْمُولٌ كُرْهُهُمْ عَلَى مُبَالَغَةٍ فِي حِفْظِ النَّفْسِ، وَسُلُوكٍ لِطَرِيقِ السَّلَامَةِ، وَلَعَلَّهُمْ رَأَوْا مِنْ أَنْفُسِهِمْ فُتُورًا أَوْ خَافُوا مِنَ الاِشْتِغَال بِهِ الإْقْلَال مِنْ تَحْصِيل الْعُلُومِ.