روى مسلم عن أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال (إنَّك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خِزي وندامة، إلاَّ مَنْ أخَذها بحقِّها، وأدَّى الذي عليه منها).
قال النووي: هذا أصلٌ عظيم في اجتناب الولاية، ولا سيَّما من كان فيه ضَعْف، وهو في حقِّ مَنْ دخَل فيها بغير أهليَّة، ولَم يَعدل؛ فإنه يَندم على ما فرطَ منه إذا جُوِزي بالخِزي يوم القيامة، وأمَّا مَنْ كان أهلاً وعدَل فيها، فله فضلٌ عظيم، تظاهَرت به الأحاديث الصحيحة.
في الحديث (لا حسدَ إلاَّ في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسَلَّطه على هَلَكته في الحقِّ، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويُعلِّمها).
قال ابن حجر: وفي الحديث الترغيب في ولاية القضاء لِمَنْ استجمَع شروطه، وقَوِي على أعمال الحقِّ، ووجَد له أعوانًا؛ لِما فيه من الأمر بالمعروف، ونَصْر المظلوم، وأداء الحقِّ لِمُستحقه، وكفِّ يد الظالم، والإصلاح بين الناس، وكلُّ ذلك من القُربات؛ فلذلك تولاَّه الأنبياء ومَن بعدهم من الخلفاء الراشدين، ومِن ثَمَّ اتَّفقوا على أنَّه من فروض الكفاية؛ لأن أمرَ الناس لا يستقيم دونه، وإنما فرَّ مَنْ فرَّ منه؛ خشية العجز عنه، وعند عدم المُعين عليه. هـ؛ الفتح.
ما معنى (فقد ذبح نفسه بغير سكين)؟
قال الصنعاني: دلَّ الحديث على التحذير من ولاية القضاء، والدخول فيه، والمراد مِنْ ذَبْح نفسه: إهلاكها؛ فإنه إنْ حكَم بغير الحقِّ مع عِلمه به، أو جَهْله له، فهو في النار، وهو إن أصاب الحق، أتعَب نفسه في الدنيا؛ لاستقصاء ما يجب عليه رعايته.
قال ابن فرحون في تَبصرة الحُكام:"وأمَّا قوله -صلى الله عليه وسلم- (من وُلِّي القضاء، فقد ذُبِح بغير سكين) فقد أورَده أكثر الناس في مَعرض التحذير من القضاء"
وقال بعض أهل العلم: هذا الحديث دليلٌ على شرف القضاء وعظيم منزلته، وأن المتولي له مجاهدٌ لنفسه وهواه، وهو دليل على فضيلة مَنْ قضى بالحقِّ؛ إذ جعَله ذبيحَ الحقِّ امتحانًا؛ لتَعظم له المثوبة امتنانًا، فالقاضي لَمَّا استَسْلَم لحكم الله، وصبَر على مخالفة الأقارب والأباعد في خصوماتها، فلم تأْخُذه في الله تعالى لومة لائمٍ؛ حتى قادَهم إلى مُرِّ الحق وكلمة العدل، وكفَّهم عن دواعي الهوى والعناد - جُعِل ذبيحَ الحقِّ لله، وبلَغَ به حال الشهداء الذين لهم الجنة"؛ انتهى كلامه - رحمه الله تعالى.