ثالثاً: مبايعة الإمام من أجل الدنيا.
في الحديث دلالة على أن من جعل مبايعته لإمام المسلمين من أجل مصالح وأغراض دنيوية فإن أعطي منها وفى ما للإمام من طاعة، وإن لم يعط منها خرج عليه، فإنه يدخل في الوعيد الشديد في حديث الباب، والعلة في دخوله في هذا الوعيد الشديد؛ لأنه غاشٌّ لإمام المسلمين، والغش للإمام غش للرعية؛ لأن في ذلك سببًا لإثارة الفتن.
ومما جاء فيمن يستحق هذه العقوبة:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ - قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ - وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِر) رواه مسلم.
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» قَالَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِرَارٍ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ).
شَيْخٌ زَانٍ: أي: من طعن في السن واستطال فيه.
وَمَلِكٌ كَذَّابٌ: أي: الإمام الكاذب.
وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِر: أي: فقير متكبر.
وسبب استحقاقهم هذه العقوبة:
قال القرطبي: وإنما غلَّظ العقابَ على هؤلاءِ الثلاثة؛ لأنَّ الحاملَ لهم على تلك المعاصي مَحْضُ المعاندة، واستخفافُ أمرِ تلك المعاصي التي اقتحموها؛ إذْ لم يَحْمِلْهم على ذلك حاملٌ حَاجِيٌّ، ولا دعتهم إليها ضرورةٌ كما تدعو مَنْ لم يكنْ مثلهم.
وبيانُ ذلك: أنَّ الشَّيْخَ لا حاجةَ له ولا داعية تدعوه إلى الزنا؛ لضعفِ داعيةِ النكاحِ في حقِّه، ولكمالِ عَقْلِه، ولقربِ أجله؛ إذ قد انتهى إلى طَرَفِ عمره. ونحوٌ من ذلك: "المَلِكُ الكَذَّابُ"؛ إذْ لا حاجةَ له إلى الكذب؛ فإنه يمكنه أنْ يُمَشِّيَ أغراضَهُ بالصِّدْق، فإنْ خاف من الصدق مفسدةً، وَرَّى.
وأما "العَائِلُ المُسْتَكْبِرُ": فاستحقَّ ذلك؛ لغلبة الكِبْرِ على نفسه؛ إذْ لا سببَ له مِنْ خارجٍ يحملُهُ على الكبر؛ فإنَّ الكِبْرَ غالبًا إنما يكونُ بالمالِ والخَوَلِ والجاه، وهو قد عَدِمَ ذلك كلَّه؛ فلا مُوجِبَ له إلا غلبةُ الكِبْرِ على نفسه، وقِلَّةُ مبالاتِهِ بتحريمِهِ وتوعيدِ الشرعِ عليه، مع أنَّ اللائقَ به والمناسبَ لحالِهِ: الذُّلُّ والتواضُعُ؛ لفقره وعجزه.