ومتمسك القائلين بعدم الوجوب؛ أنه لا يتعلق بهذا المبيت نسك خاص، فكأنه مجرد مرحلة للاستراحة، وهذا رأي محض، ومن الحجة عندهم أن بعض الصحابة كان يبيت تلك الليلة بمكة، كما نقل عن عائشة أنها لم تخرج من مكة يوم التروية حتى دخل الليل وذهب ثلثه، وجاء عن ابن الزبير أنه صلى الظهر يوم التروية بمكة، مع أنه هو القائل: «سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر وما بعدها والفجر بمنى، ثم يغدون إلى عرفة، رواه ابن خزيمة والحاكم كما في فتح الباري (٣/ ٦٤٢)، لكن هذا القول منه ﵁ بمجرده؛ لا يدل على عدم الوجوب كما قد يظن، لأن مراده ليس السنة الاصطلاحية الحادثة، بل المقصود أن النبي ﷺ فعل ذلك، وتخلف عبد الله بن الزبير وعائشة ﵃ قد يكون لعذر، أو لأن ذلك مذهبهما، وفي الموطإ (٩٠٧) عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، ثم يغدو إذا طلعت الشمس إلى عرفة، وفي المدونة (١/ ٣٢٠): «أرأيت لو أن حاجا أحرم بالحج من مكة، فأخر الخروج يوم التروية والليلة المقبلة فلم يبت بمنى وبات بمكة، ثم غدا من مكة إلى عرفات أكان مالك يرى عليه لذلك شيئا؟، قال: «كان مالك يكره له ذلك، ويراه قد أساء»، وقال ابن المنذر:«لا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه أوجب على من تخلف عن منى ليلة التاسع شيئا»، الفتح (٣/ ٦٤٢).
قلت: وقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي إلى لزوم الهدي لمن لم يبت بمنى ليلة التاسع، ذكره علي الصعيدي في حاشيته على شرح أبي الحسن، ويظهر أن ترك المبيت بمنى أمر قديم، فقد قال ابن العربي في العارضة (٣/ ١١٠): «مررت من ذات عرق فألفيت الحاج كله بائتا بعرفة ليلة عرفة، وليس على من فعل ذلك شيء، ولكنه ترك فعل رسول الله ﷺ، وقد خاب من تركه»، انتهى، وأفعال النبي ﷺ في الحج على الوجوب حتى يدل الدليل على خلاف ذلك، اللهم إلا أن يثبت الإجماع على عدم لزوم الهدي كما حكاه النووي، وأشار إليه ابن المنذر، وانظر نيل الأوطار للشوكاني (٥/ ١٣٣)، وقد كره مالك الذهاب إلى منى قبل يوم التروية، كما كره إقامة الحاج بمكة يومها إلا لمن أدركه وقت الجمعة، ولعل ذلك مقيد عنده بمن وجبت عليه لكون حكم السفر قد انقطع عنه.