انتقل هنا للكلام على الودائع وهي الجوارح: البصر والسمع واللسان واليدان والرجلان بعد كلامه على الشرائع، فهذه ينبغي أن تسخر فيما يرضي الله تعالى شكرا له على ما فيها من نعم، كما قال:
لو كل جارحة مني لها لغة … تثني عليك بما أوليت من حسن
لكان ما زاد شكري إذ شكرت به … إليك أبلغ في الإحسان والمنن
وأعظم ما يعين على كفها عن محارم الله تعالى أداء الفرائض والاستزادة من النوافل، مما يورث محبة الله، فيؤثر المرء ما عنده على متاع الدنيا المباح، فكيف بالحرام؟، كما جاء في الحديث القدسي الذي رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعا:«من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه … ».
والمقصود بالمحارم ما لا يجوز للمرء الاستمتاع به من النساء وهن ما عدا الزوجة والمملوكة، وما يجوز له النظر إليه من أجسام محارمه بنسب أو مصاهرة أو رضاع، قال الله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٣٠)﴾ [النور: ٣٠]، وكما أمر الله المؤمنين بغض أبصارهم أمر المؤمنات مع دخولهن في الأمر السابق في الأصل، وأعقب ذلك بالأمر بحفظ الفروج لأن من أعظم أسباب ذلك غض البصر، والغض معناه النقصان من الطرف، وهو غير متأت بوجه كامل، لذلك جيء معه بمن التي تفيد التبعيض، ولم يذكر المغضوض عنه ليتعدى غض البصر النساء إلى غيرهن مما يتعين فيه أو يندب، ولم يبين ما تحفظ منه الفروج للعلم به، وليشمل عدم كشفها إلا لمن يجوز كشفها له، ومن ذلك حال الخلوة من غير حاجة، فإن الله أحق أن يستحيى منه.