النوادر (البناء على القبور) فهل يفسر هذا بأنه الكراهة الاصطلاحية؟، وفيها وكره ابن القاسم أن يجعل على القبر بلاطة، ويكتب فيها، ولم ير بالحجر والعود والخشبة بأسا، يعرف الرجل به قبر وليه، ما لم يكتب فيه، ولا أرى قول عمر:«ولا تجعلوا على قبري حجرا»، إلا أنه أراد من فوقه على معنى البناء»، ومما أطلق مالك عليه الكراهة والظاهر أنه يريد الحرمة كتابة ما لا يعرف من الكلام لتعليقه على المريض، قال:«ولا بأس بما تعلقه الحائض والصبيان من القرآن إذا أخرز عليه، أو جعل في شيء يكنه، ولا بأس أن يكتب للحبلى يعلق عليها من القرآن، وذكر الله وأسمائه، وأما ما لا يعرف، والكتاب العبراني؛ فأكرهه، وكره العقد في الخيط»، فهل يقول من يعرف مالكا وتسننه، وتوقيه من الابتداع وشدة نفوره من المخالفة للسنة؛ أن كتابة ما لا يعرف معناه هو مكروه كراهة تنزيه؟، اللهم لا.
فإن قلت: إن كان الأقدمون قد تحرجوا من إطلاق لفظ الحرمة، فلنفعل مثلهم، فنتحفظ في إطلاقها، فلا نقول بتحريم البناء على القبور، فالجواب: أن لكل قصده، وهو مأجور عليه، وقد يكون اللائق بزماننا غير اللائق بزمانهم، فإن لفظ الكراهة اعتمد عليه بعض الناس فاجترأوا على محارم الله، فصار متعينا أن يصرح بالحرمة متى وجد دليلها، ولكل وجهة هو موليها، وقد روى مسلم والترمذي (١٠٤٩) عن أبي وائل أن عليا قال لأبي الهياج الأسدي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ؟: لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته»، فكيف تلتقي الكراهة التنزيهية التي هي خلاف أصل دلالة النهي مع الأمر بالتسوية بعد حصول المخالفة وبوقت طويل؟، ولا أريد أن أستدل بدلالة الاقتران حيث جمع في هذا الحديث بين الأمر بتسوية القبور، والأمر بطمس الثماثيل؛ فقد قالوا إنها ضعيفة، والتماثيل مما أجمع على تحريمه.
فإن قيل: إن البناء يحافظ به على القبر حتى يعلم فيزار للاستغفار له وللعبرة والاتعاظ، فالجواب: أن هذا رأي في مقابل النص فيكون فاسدا، ومفاسد العالمَ كلها راجعة إلى تقديم العقل على الشرع، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١)﴾ [الروم: ٤١]، ثم إن القبر يمكن أن يعلم بغير البناء،