هذا مما لا يجوز أن تتبع به الجنازة، وقد جاء ذلك في حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال:«لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار»، رواه أبو داود (٣١٧١)، وفيه مجهولان، مجهول عين ومجهول حال، لكن قال الألباني في (أحكام الجنائز ٩١): «يتقوى بشواهده المرفوعة، وبعض الآثار الموقوفة»، وفي الموطإ (٥٣٠) عن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت لأهلها: أجمروا ثيابي إذا مت، ثم حنطوني، ولا تذروا على كفني حناطا، ولا تتبعوني بنار»، وروى أيضا الأخير عن أبي هريرة، قال يحي:«سمعت مالكا يكره ذلك».
واتباع الجنائز بالنار قد انقطع عندنا والحمد لله، لكن ما زال الغالب أن يصحب إخراج الجنازة من الدار رفع الصوت بالبكاء والعويل، بل أصبحت النساء يتحرين إخراج الجنازة ليحضرن ذلك، ويقفن على الأبواب والشرفات، ويصحب ذلك الصراخ، والظاهر أن رفع الصوت منهي عنه على العموم، ولا يختص برفعه بالبكاء، فيشمل مثلا قراءة البردة وهي قصيدة البوصيري في مدح النبي ﷺ التي لا تكاد تخلو جنازة من رفع الصوت بها، وكثيرا ما يرددها من لا يفقه شيئا من معانيها، وفي بعض أبياتها ما لا يجوز قوله فضلا عن اعتقاده، ففعل ذلك بدعة بلا ريب، وهكذا الجهر بقراءة القرآن والتهليل وسائر الأذكار التي هي مشروعة في الأصل، فإنها من قبيل البدع، لأنها ليس هذا موضعها، وكون بعض الأحاديث جاء فيها التنصيص على البكاء غير مانع مما قلت، فإنه بعض أفراد العام، والعام ما عم شيئين فصاعدا، ولأن جعل رفع الصوت هنا العويل كالتعطيل للحديث، لأن أدلة النهي عن النياحة معروفة، وقد تقدم بعضها، ومما يدل على ذلك قول قيس بن عباد:«كان أصحاب النبي ﷺ يكرهون رفع الصوت عند الجنائز»، وقد رواه عنه ابن المبارك في كتاب الزهد له.
وقد تقدم إثبات ما جاء في المدونة من قول مالك: «وأكره أن يتبع الميت بمجمرة،