للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولعل المؤلف قد آثر التعبير ببعث الموتى بدل من في القبور إيثارا للجلي على المحتمل الخفي، وإن اقتضى الأمر التلفيق من سياقين قرآنيين.

والصواب: أن الله تعالى يبعث الموتى بجمع أجزائهم التي تفرقت وتحللت وضلت في الأرض، وأنه تعالى لا يخلق أجساما أخرى، وهو على كل شيء قدير، وقد وضح هذا المعنى ابن أبي زيد في كتابه الجامع حيث قال: «وأن الأجساد التي أطاعت أو عصت هي التي تبعث يوم القيامة لتجازى، والجلود التي كانت في الدنيا والألسنة والأيدي والأرجل هي التي تشهد عليهم يوم القيامة».

وقد كان المشركون يستبعدون هذا ويقولون كما حكى الله عنهم: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (١٠)[السجدة: ١٠]، وقال : «كل ابن آدم يأكله التراب إلا عَجْبَ الذَّنَبَ منه خلق وفيه يركب» (١)، وعَجْبُ الذَّنَب عظم لطيف في أصل الصلب، وهو مكان رأس الذنب من ذوات الأربع، وقد ورد أنه مثل حبة الخردل في الصغر.

قال الحافظ ناقلا عن غيره: «في هذا سر لا يعلمه إلا الله، لأن من يظهر الوجود من العدم قادر على ذلك لا يحتاج إلى شيء يبني عليه، ويحتمل أن يكون ذلك جعل علامة للملائكة على إحياء كل إنسان بجوهره، ولا يحصل العلم للملائكة بذلك إلا بإبقاء عظم كل شخص ليعلم أنه إنما أراد بذلك إعادة الأرواح إلى تلك الأعيان التي هي جزء منها، ولولا إبقاء شيء منها لجوزت الملائكة أن الإعادة إلى أمثال الأجساد، لا إلى نفس الأجساد»، انتهى.

ومن الأدلة قول الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى﴾، فأخبر أنه يحييهم والإحياء يدل على ما قلناه، وأخبر أنه يبعثهم، والبعث في اللغة الإرسال والإثارة.

ومن ذلك أن أجساد الأنبياء حرّم الله على الأرض أن تأكلها، فبعثها إرجاع الأرواح إليها، فيكون غيرها كذلك، وحديث عجب الذنب مخصوص بهذا.


(١) متفق عليه: البخاري (٤٩٣٥)، ومسلم (٢٩٥٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>