وتخويفه من عقاب الله تعالى فلا يهجره، فإن لم يقدر على شيء من ذلك لشدة تجبره أو لخوفه منه اكتفى بهجرانه.
لقد علمت أن الهجران ليس مقصودا لذاته، وإنما يقدم عليه لمصلحة الهاجر أو المهجور أو غيرهما، أما مصلحة الهاجر فكأن يلحقه بمخالطة غيره في دينه أو دنياه ضرر، بأن يتأثر بالشبهات التي يلقيها عليه، أو يستميله بالشهوات التي يزينها له، وأما مصلحة المهجور فبأن يكون في الهجران زجر وتأديب له حتى يكف عما هو فيه، فإذا لم تتحقق هذه المصلحة بالهجران وتحققت بالاتصال كان هو المطلوب.
وأما مصبحة غير الهاجر والمهجور فلما في الهجران من التنبيه إلى عدم الوقوع في المحذور، ولأن مخالطة المطيع للعاصي يزول معها الفارق بين المحق والمبطل والبر والفاجر، ولاسيما إذا كان الذي يخالطه معروفا بالعلم وبالسنة، ولهذا كان مشروعا أن يترك الفاضل الصلاة على تاركها عند من لم يكفره، وعلى قاتل نفسه وعلى المحدود، ومنه ترك النبي ﷺ الصلاة على المدين.
قال ابن عبد البر:«أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه أو يولد به على نفسه مضرة في دينه أو دنياه فإن كان ذلك فقد رخص له في مجانبته وبعده، ورب صرم جميل خير من مخالطة مؤذية:
إذا ما تقضى الود إلا تكاشرا … فهجر جميل للفريقين صالح
قلت: الصواب أن الإبقاء على الصلة ولو بتكلف خير من الهجران وإن كان جميلا إذا لم تكن فيه مصلحة، فكثيرا ما يكون ذلك سببا في العودة إلى الأصل، وقد قال أبو الدرداء: «إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم»، ذكره البخاري بصيغة التمريض.
والهجران الذي ينفع هو الذي يكون من الزوج لزوجته، ومن الوالد لولده، ومن الشيخ لتلميذه، ومن ذي المكانة لغيره، أما هجران الصغير للكبير، والتلميذ للشيخ، والوضيع لذي المكانة فلا يراد به الإصلاح، ولا يتحقق به، فإن كان لمصلحة الهاجر فذاك، وإلا فلا يشرع.