ولا بد بعد هذا من الكلام على أمرين أولهما أن ما اشترطوه من التساوي في الربح بحسب ما على كل منهما من المؤونة اعتمادا على أن سنة الشركة التساوي، وإلا كان العقد باطلا، فهذا حق بحسب الأصل متى تشاحا، لكن مخالفته لا تمنع الصحة متى تراضيا على خلافه لقول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (٢٩)﴾ [النساء: ٢٩]، ولقول النبي ﷺ:«إنما البيع عن تراض»، والثاني أن ما ذكر من المنع فيما إذا وقعت الأرض في مقابل البذر، قد جاء ما يدل على جوازه، أو لم تعلم أن النبي ﷺ عامل يهود خيبر ولم يكن يبعث لهم بالبذر، وممن قال بجواز ذلك الداودي، كان ﵀ يرى جواز كراء الأرض بما يخرج منها، وقريب منه قول الأصيلي ويحيى ابن يحيى الليثي، كما ذكره ابن ناجي وزروق في شرحيهما على الرسالة.
وقال ابن القيم في زاد المعاد (٣/ ٣٤٥) وهو بصدد الأحكام التي تستفاد مما جرى في غزوة خيبر وما بعدها: «ومنها جواز المساقاة والمزارعة بجزء مما يخرج من الأرض من ثمر أو زرع، كما عامل رسول الله ﷺ أهل خيبر على ذلك، واستمر ذلك إلى حين وفاته لم ينسخ البتة، واستمر عمل الخلفاء الراشدين عليه، وليس هذا من باب المؤاجرة في شيء، بل من باب المشاركة وهو نظير المضاربة سواء، فمن أباح المضاربة وحرم ذلك فقد فرق بين متماثلين»، انتهى، وقال:«ومنها أنه دفع إليهم الأرض على أن يعملوها من أموالهم ولم يدفع إليهم البذر ولا كان يحمل إليهم البذر من المدينة قطعا، فدل على أن هَدْيَهُ عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض، وأنه يجوز أن يكون من العامل، وهذا كان هديه ﷺ وهدي الخلفاء الراشدين من بعده، وكما أنه هو المنقول فهو الموافق للقياس، فإن الأرض بمنزلة رأس المال في المضاربة، والبذر يجري مجرى سقي الماء، ولهذا يموت في الأرض ولا يرجع إلى صاحبه، ولو كان بمنزلة رأس المال في المضاربة لاشترط عوده إلى صاحبه وهذا يفسد المزارعة»، انتهى، وقد علمت ما اعتمد عليه في جواز كون بذر الأرض البيضاء من العامل في المساقاة وهو كون النبي ﷺ لم ينقل عنه أنه أعطى لليهود زرعا، وذلك عند قول المؤلف «وعليه زريعة البياض»، فهذا حق، لكنهم حكموا فيه قاعدة الثلث، فكأنهم يقولون إن الأرض البيضاء التي عمل فيها يهود خيبر لم تصل إلى أكثر من ثلث قيمة الثمر، وهذا مجرد تخمين وظن وتخصيص النصوص بالرأي، والله أعلم.