فإن قلت: قال ابن القاسم في (المدونة ١/ ١٣٨): «رأيت مالكا والإمام يوم الجمعة على المنبر قاعد، ومالك متحلق في أصحابه قبل أن يأتي الإمام، وبعد ما جاء يتحدث ولا يقطع حديثه ولا يصرف وجهه إلى الإمام، ويقبل هو وأصحابه على حديثهم كما هم حتى سكت المؤذن، فإذا سكت المؤذن وقام الإمام للخطبة تحول هو وجميع أصحابه إلى الإمام فاستقبلوه بوجوههم»، قلت: يظهر أن الإمام لم يبلغه الحديث، ومقامه من الاتباع معروف، وهكذا سائر من نفل هذا من الصحابة ومن دونهم، والله أعلم، وانظر عارضة الأحوذي لابن العربي مع سنن الترمذي (٢/ ١١٩)، ولو سلم كل ما قاله المجوزون فلا وجه للمقارنة بين الذي كان وما عليه هذا الدرس اليوم والمقام لا يسع للزيادة.
ومما يستغرب قول أبي بكر الخطيب ﵀ وهو يوجه معنى الحديث المتقدم في كتابه (الفقيه والمتفقه ٢/ ١٣٠) قال: «هذا الحديث محمول على أن تكون الحلقة بقرب الإمام، بحيث يشغل الكلام فيها عن استماع الخطبة، فأما إذا كان المسجد واسعا والحلقة بعيدة عن الإمام بحيث لا يدركها صوته؛ فلا بأس بذلك، وقد رأيت كافة شيوخنا من الفقهاء والمحدثين يفعلونه، وجاء مثله عن عدة من الصحابة والتابعين ﵃»، ثم روى بسنده عن معاوية بن قرة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله ﷺ من مزينة، ليس فيهم إلا من طعن أو طعن، أو ضرب أو ضرب مع رسول الله ﷺ إذا كان يوم الجمعة اغتسلوا، ولبسوا من صالح ثيابهم، وشموا من طيب نسائهم، ثم أتوا الجمعة وصلوا ركعتين، ثم جلسوا يبثون العلم والسنة حتى يخرج الإمام»، فانظر سنده، أما متنه ففيه نكارة.
والذي يقرأ كلام الخطيب هذا لا يكاد يصدق أن هذا الكلام في فهم الحديث له، إذ يؤخذ منه أن البعيد عن الإمام في المسجد يوم الجمعة له أن يشتغل عن الخطبة بمدارسة العلم وبالحديث، ولذلك استغربت كلامه، ومن جاءته السنة فلا حجة تقوم لها إلا أن تعارض ولا يمكن الجمع، أو يقع الإجماع على خلافها، ولا شيء من ذلك هنا، فترك هذا الدرس هو الحق إذا اجتمع فيه النهي والترك منه ﷺ، وقد يسكت عنه إذا فعل لحاجة عارضة، أو يرغم عليه الإمام إرغاما كما هو الحاصل، أما جمعية العلماء المسلمين