والظاهر أن النهي عن البناء وما معه للتحريم، لأنه الأصل، ولا قرينة تصرفه هنا عنه، وإذا كان مجرد التجصيص وهو الطلي منهيا عنه، لما فيه من جلب الانتباه؛ فكيف بالبناء كيفما كان نوعه وهيئته؟، ولعل المشهور من إطلاق الكراهة التنزيهية على البناء المعتمد فيه على قول الإمام في المدونة:«أكره تجصيص القبور، والبناء عليها، وهذه الحجارة التي يبنى عليها»، فيقال إنه من المعلوم أن إطلاق لفظ الكراهة على ما يثاب على تركه، ولا يعاقب على فعله؛ إنما هو اصطلاح حادث، فلا ينبغي تحكيمه في أقوال المتقدمين من السلف المرحومين، ولأنهم كانوا زيادة على هذا يتحرجون من التصريح بالحرمة، بل أقول إنه يندر أن تعثر على التصريح بالحرمة في الموطإ، والكراهة في اللغة تستعمل في المنع كما في الحديث الصحيح:«إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم كثرة السؤال، وقيل وقال، وإضاعة المال»، وإضاعة المال محرمة.
قال خليل ذاكرا المكروهات:«وتطيين قبر، أو تبييضه، وبناء عليه، أو تحويز، وإن بوهي به حرم»، انتهى، وتحويز القبر البناء حوله، فأنت ترى أنه ناط حرمة ما ذكر بالمباهاة، وهذا بعيد، فإن المباهاة أمر محرم لذاته، لا يحتاج إلى نهي آخر، إلا فيما استثناه الشارع، كالتباهي على الكفار في الحرب، وعليه يكون التباهي مع البناء شر على شر، كالاختيال مع جر الثوب، فلا ينبغي تقييد حرمة البناء بالتباهي، ولا حرمة جر الثوب بالاختيال.
وقد علق سحنون في المدونة على الأثرين اللذين أثبتهما فيها في تسوية القبور بعد قول مالك المتقدم، فقال:«فهذه آثار في تسويتها، فكيف بمن يريد أن يبني عليها»؟، يعني أنه لو كان التسامح سائغا لتسومح في ذلك بعد أن تبنى، فإنه قد يتسامح في الاستمرار ما لا يتسامح في الابتداء، فلما لم يتسامح فيه بعد فعله، فكيف يتسامح فيه قبله؟.
ومثل ما تقدم في لفظ الكراهة قول ابن القاسم عن نكاح الحربيات في المدونة (٢/ ٢١٥): «بلغني عن مالك أنه كرهه»، ومع ذلك جزم القرطبي في تفسيره (٥/ ٦٩) بالحرمة، قال:«وأما نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا، فلا يحل»، قال:«وكره مالك تزوج الحربيات لعلة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير»، وقد عبر مالك بالكراهة أيضا في بناء المساجد على القبور كما رواه عنه ابن القاسم في العتبية، وهو في