نعم إن النزاع في المسألة طويل معقد، بلغ بالمعارضين للقول بالحقيقة إلى نسبة من يقول بها إلى التشبيه، وهم والله برآء منه، وزعموا أن مذهب السلف كان التفويض في الحقيقة، وذلك لأن الفرق دقيق بين إثبات حقائق الكلام كما هي في العربية التي هي لغة القرآن، وبين تنزيل تلك الحقائق على من هي له، فهذا التنزيل هو الذي يختلف، فأنت تكيف في شأن المخلوق الذي تعرفه، وتفوض في شأن خالقك، وقد سبق أن ذكرت أمثلة لبعض الأمور التي ينتفع الناس بها مع أنهم لا يعرفون لها كيفية، فما لهم ينكرون الإقرار بالمعنى في اللغة مع جهل الكيف؟، ولهذا فأهل الحق لا يدفعهم جهل الكيف لا إلى التأويل والقول بالمجاز، ولا إلى التفويض، ومن كان أسير عالم الشهادة قاس عليه عالم الغيب فتخبط.
وقد أخبر الله تعالى عن حور الجنة، وخيامها، وأنهارها، وظلالها، وغرفها، وطعامها، وفاكهتها، وغير ذلك، ومع هذا قال تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة: ١٧]، وفي الصحيح عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ، قال الله تعالى:«أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ذخرا، بله ما اطلعتم عليه»(١)، يعني دع ما عرفتموه، واطلعتم عليه من النعيم الذي في الجنة، مما ذكره الله تعالى لكم، وإنما الذي اطلعنا عليه وعرفناه أسماء الأشياء الدالة على حقائقها، لكن ليس بالضرورة أن تكون كما هي عندنا في الدنيا، والمقصود أنه تعالى نفى علمنا بما لم يذكره لنا، وأثبت اطلاعنا على ما ذكره لنا، فهذا تنظير للمسألة مع ما سبق أرجو أن يتضح به المقام.
وإذا كانت صفات مولانا لا تعلم كيفيتها؛ فالذات المقدسة أولى أن لا يدرك كنهها، فكما أنك تثبت ذات مولانا ﷿، مع أنك لا تعلم كنهها، فكذلك صفاته سبحانه تثبتُها كما جاءت وإن كنت لا تعلم كنهها، وإذا كان الواصفون لا يدركون كيفية صفته؛ فليس لهم أن