خلقهما، ثم أرشد إلى ما يقال لهما في كل حال ولو حال إرادة الخير لهما، فقال: ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾، ثم ذكر معاملتهما بالفعل بعد القول: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾، أي كن معهما متذللا كمن يكون مع من هو أقوى منه كالطائر الضعيف مع القوي، وافتقار المرء إلى من كان مفتقرا إليه فيه على النفس شدة:
يا من أتى يسأل عن فاقتي … ما حال من يسأل من سائله؟
ما ذلة السلطان إلا إذا … أصبح محتاجا إلى عامله
ثم إن الإحسان إلى الوالدين لا ينبغي أن يكون مجرد مظهر يخالفه المخبر، فليصدر عن رحمة بهما، وإشفاق عليهما، فلهذا قيد خفض الجناح بقوله: ﴿مِنَ الرَّحْمَةِ﴾، ثم ختم بالأمر بالدعاء لهما بالرحمة وقرن به ذكر تربيتهما له صغيرا، والجزاء من جنس العمل، قال الزمخشري:«لا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها، وادع الله أن يرحمهما رحمته الباقية»، انتهى.
وفي حديث ابن مسعود قال: سألت النبي ﷺ أي العمل أحب إلى الله؟، قال:«الصلاة على وقتها»، قلت:«ثم أي»؟، قال:«ثم بر الوالدين»، قلت:«ثم أي»؟ قال:«الجهاد في سبيل الله»، قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني»، رواه الشيخان وغيرهما، وقد قال ابن عيينة في تفسيره: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا لوالديه عقبها فقد شكر لهما»، كذا في الفتح، وقد قال ﷺ:«أنت ومالُكَ لأبيك» وقيد ذلك بالحاجة في حديث آخر.
وقد قام الدليل على جواز الإحسان إلى الكافر غير الحربي، فالوالدان أولى أن يشرع الإحسان إليهما، فعن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش، فأتيت النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟، قال:«نعم، صِلِي أمك»، رواه أحمد والشيخان وأبو داود، وأم أسماء هي قتيلة كما جاء ذلك في مسند أحمد عن عبد الله بن الزبير قال: «قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا: ضباب، وقرظ، وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها، وتدخلها بيتها،