دعوة المكلف إلى الرقي درجة أعلى مما هو عليه في غير هذه المناسبة، لأن الصيام يعينه على هذا المرتقى الصعب لما فيه من كسر سَوْرَةِ النفس، بالإعراض عن الشهوات، وهي من وسائل الشيطان ومجاريه إلى نفس الإنسان، وقد قال أبو هريرة ﵁:«إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين»، رواه مالك (٦٩٠) موقوفا، وهو مما لا يقال بالرأي، وصفدت غلت، قال ابن عبد البر:«هو عندي مجاز، والمعنى فيه والله أعلم أن الله يعصم فيه المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي، ولا يخلص إليهم فيه الشياطين كما كانوا يخلصون إليهم في سائر السَّنَةِ»، انتهى.
قلت: ولا مانع من وجود التصفيد مع ذلك، فهنا موضع الفرق بين خبر المعصوم وخبر غيره.
وقال النبي ﷺ:«من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»، رواه البخاري (١٩٠٣) وأبو داود والترمذي (٧٠٧) عن أبي هريرة، وقول الزور؛ هو القول المائل عن الحق، فيشمل الكذب، وشهادة الزور، والشتم، والاغتياب، والقذف، فأما قوله «والعمل به»؛ فيعني العمل على وفقه، فهنا ثلاث دركات في الزور الجمع بين قول الزور والعمل به، وقوله فقط، والعمل به فقط، وقوله فليس لله حاجة، الله تعالى ليس له حاجة إلى خلقه مطلقا، فلا تضره طاعاتهم، ولا تنفعه معاصيهم، فالمراد بنفي الحاجة هنا؛ نفي القبول الذي يترتب عليه الثواب، فليس المقصود من الصوم خصوص الامتناع عن الطعام والشراب وسائر المفطرات، وإنما يريد الشرع منه ما ذكره الله تعالى في قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ نظيره أن إراقة الدماء في الضحايا والهدايا من القربات، لكنها ليست مقصودة لذاتها، كما قال تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج: ٣٧]، وأمثلته في القرآن منعددة.