وهذه الهداية هي التي أمرنا أن نسألها ربنا في كل ركعة من صلواتنا حيث يجب قراءة الفاتحة، وفيها قول الله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦]، ومما يدخل فيها في الجملة ما عناه النبي ﷺ في دعائه إذا قام من الليل:«اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»، وهو طرف من حديث عائشة في صحيح مسلم وغيره، وقد اجتمع النوعان في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)﴾ [يونس: ٢٥].
وقال عون بن معمر سمعت سعيد بن أبي عروبة وكان ممن يذهب مذهب أهل القدر يعني المنكرين للقدر يقول: ما في القرآن أشد علي من قوله تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ﴾ [الأعراف: ١٥٥]، قال: فقلت: القرآن يشتد عليك؟، والله لا كلمتك أبدا، فما كلمه حتى مات (١).
ولا ينبغي أن يفهم من كون الهداية والإضلال بيد الله تعالى وحده أن الإنسان مجبر على فعل ما يفعل، فقد أثبت الله تعالى للمكلف مشيئة، لكنه أخبر أن مشيئته تعالى عامة لا يخرج عنها شيء، وقد تقدم ذكر ذلك.
ومن أضله الله فإنما أضله بعدله، إذ إنه لم يظلمه، ولا عاقبه من غير أن يعذر إليه ويبين له، فإن الله تعالى حرم الظلم على نفسه، فقال ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦]، وقال: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [الروم: ٩].
ومن هداه الله فإنما هداه بفضله وكرمه، لعلمه ﷾ بعباده، ومن منهم أهل لفضله، ومن هو جدير بعدله، قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: ١٢٥]، فالله تعالى يجازي من قصد الخير بالتوفيق له، ومن قصد الشر بالخذلان، وكل ذلك بقدر مقدر، قاله ابن كثير في سورة الليل.
فالتوفيق عناية خاصة يتفضل الله بها على بعض عباده، وهو أعلم حيث يضع توفيقه، كما أنه أعلم حيث يجعل رسالته، فيجمع لمن تفضل بتوفيقه بين ما جعله في مقدوره،