جاء يعلمنا الكتاب والحكمة، والأمية وإن كانت في حقه ﷺ كمالا ومعجزة لاستغنائه عنها، لكونها مجرد وسيلة، فإنها في حقنا نقص، فكيف يتمدح بالنقص عموما؟، فالذي يعطيه الحديث لمن فتح الله قلبه للحق أن الأمية هنا ليس المراد من مرعاتها إلا ما وردت في سياقه، وهو إثبات الشهور، أو ما لم يكن متسيرا يومئذ إثباته إلا بالشمس عينا أو أثرا كما في أوقات الصلوات.
ولا يصح أن يؤخذ من الحديث التنفير من علم النجوم والفلك كما ظن بعضهم، فقد قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الأنعام: ٩٧]، وقال تعالى: ﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦)﴾ [النحل: ١٦].
وعن عمر ﵁ قال:«تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر، ثم أمسكوا»، أما الحديث الذي فيه:«وإذا ذكر النجوم فأمسكوا»؛ فهو إمساك عن أمر آخر، ومنه استعمالها في معرفة البخوت والحظوظ فإنه ضرب من الكهانة، فالحاصل أن علم النجوم وإن كان مشروعا، لكن الاعتماد عليه في أمرنا هذا لا يصلح لعدم الانضباط والاطراد، لأنه يتناقض مع المراد من الحساب الذي شأنه الدقة والضبط، وبهذا يتبين أن الحديث مخصوص بالسياق الوارد فيه، ومن أمثلته في كتاب الله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾، ومن ذلك حديث أبي سعيد ﵁ الذي فيه ذكر الأجناس الربوية الستة، وهو في الصحيح، فإنه في رواية البيهقي زيادة:«وكل ما يكال أو يوزن»، وهذه إن صحت؛ فإنه يجوز أن يكون المراد منها خصوص ما هو ثمن للأشياء، أو الطعام وما يصلحه، فيكون السياق معينا على هذا التقييد، فلا يكون فيه حجة ليشمل الحديد والنحاس بل والتراب والحجر وسائر ما يوزن أو يكال، وإذا ظهر المعنى فإن اللفظ صورة له ووسيلة إليه، فلا ينبغي تطويل العكوف عليه، وقد تنبه إلى هذا الأمر العز بن عبد السلام وابن القيم.
وقال ابن دقيق العيد في شرح عمدة الأحكام (٢/ ٢١٦): «السياق طريق إلى بيان المجملات، وتعيين المحتملات، وتنزيل الكلام على المقصود منه، وفهم ذلك قاعدة كبيرة من قواعد أصول الفقه، ولم أر من تعرض لها في أصول الفقه بالكلام عليها، وتقرير