٠٤ - «وإنما تقبل منهم الجزية إذا كانوا حيث تنالهم أحكامنا، فأما إن بعدوا منا؛ فلا تقبل منهم الجزية، إلا أن يرتحلوا إلى بلادنا، وإلا قوتلوا».
الكفار الذين يقبلون بالجزية إما أن يكونوا أهل عنوة بفتح العين وهم الذين فتحت بلادهم قهرا وغلبة، وإما أن يكونوا أهل صلح، فأهل الصلح تقبل منهم الجزية في موضعهم حيثما كان، وأهل العنوة لا تقبل منهم الجزية إلا إذا كانوا بحيث ينالهم سلطان المسلمين، وذلك لأنهم إن كانوا بعيدين عن بلاد المسلمين بحيث لا تنالهم سلطتهم؛ فإنهم لا يؤمن كرهم عليهم، واستعدادهم لقتالهم في غفلة عنهم، فأي فائدة في قبول الجزية وقد لا يكون قبولهم لها إلا لالتقاط أنفاسهم واستجماع قوتهم؟، لكن الانتقال قد يتأتى إن كان عدد هؤلاء محدودا، وإلا فلم يبق إلا قتالهم حسب ما تقدم إن رفضوا الدخول في الإسلام، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، والظاهر من الأدلة تقريرهم حيث قبلوا الجزية، وقد علمت أن النبي ﷺ كان يوصي أمراء الجيوش والسرايا بدعوة من أسلم إلى الهجرة إلى المدينة، لكن لا على وجه الإلزام، وقد نسخ هذا الحكم بفتح مكة كما جاء في الحديث الصحيح:«لا هجرة بعد الفتح»، قال سحنون:«من أجاب إلى الإسلام أو إلى الجزية لم يؤمر بالتحول من محله إن كان تحت حكم الإسلام».
وأما من أسلم منهم؛ فإن كانوا بحيث ينالهم سلطان الكفار؛ فهم مطالبون بالهجرة إلى أرض الإسلام، فإن لم يهاجروا كانوا عاصين لله ورسوله ﷺ، وإسلامهم صحيح، إذ الإقامة بدار الحرب بمجردها؛ لا تقدح في إسلامهم، وإن كانت الهجرة إلى بلاد الإسلام واجبة عليهم، لقول النبي ﷺ:«لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو»، رواه النسائي وابن حبان، وانظر التلخيص الحبير (ح/ ١٨٢٢)، فربط بين وجوب الهجرة ومشروعية القتال، لأن القتال معناه وجود عدو للمسلمين، ويلزم من القتال أن يكون هناك دار حرب، ودار إسلام،